الإخوان المسلمون في سوريا- حل أم إصلاح؟ نظرة في الشرعية والمستقبل

في مقالة حديثة نشرها على موقع الجزيرة نت، أثار الدكتور أحمد موفق زيدان، الكاتب والناشط الإعلامي البارز والمستشار الإعلامي للرئيس السوري أحمد الشرع، سؤالًا جوهريًا يعكس رؤية سياسية بالأساس ومن ثم فكرية، مفاده: "متى تحل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفسها؟". لقد اختزل الدكتور زيدان قضية سياسية شائكة ذات أبعاد تاريخية وفكرية عميقة إلى خيار ضيق الأفق، متجاهلًا طبيعة المرحلة الانتقالية الديمقراطية، ومقترحًا حل الجماعة كحل وحيد ونهائي.
هل استند الدكتور أحمد في طرحه إلى أساس منطقي متين، أم أنه انطلق من النتيجة المرجوة، ثم سعى جاهدًا لإيجاد المسوغات التي تدعمها؟
أود أن أسجل هنا سلسلة من الملاحظات حول هذا الطرح، أبدأها بالتالي:
أولًا: جماعة الإخوان المسلمين.. جذور تاريخية ضاربة في أعماق المجتمع
الحركات الاجتماعية ذات الجذور الفكرية الراسخة والتاريخ العريق، كجماعة الإخوان المسلمين، التي تمثل تيارًا فكريًا إسلاميًا شاملاً، مستندة إلى أفكار الإمام حسن البنا، وشخصيات سورية مرموقة كالشيخ مصطفى السباعي، والشيخ عصام العطار، والشيخ سعيد حوى، وغيرهم من الرموز الفكرية والدينية، تمثل قيمة تاريخية لا يستهان بها. لقد تركت أدبيات هذه الجماعة بصماتها العميقة في أجيال عديدة من الشخصيات والمؤسسات على مستوى العالم.
لا يمكن بأي حال من الأحوال محو التجربة الثرية والنضال المضني والتضحيات الجسام التي قدمتها هذه الجماعة بقرار إداري بسيط مصحوب بعبارات عاطفية وشعارات معلبة من قبيل: (قامت بواجبها، تجاوزها الزمن، جسم متصلب، قيادات متصلبة، ديناصورات… إلخ). بل يجب أن يتم ذلك من خلال آليات دستورية وقانونية راسخة تضمن المساءلة والشفافية داخل النظام السياسي، استنادًا إلى قوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى: 38)، الذي يؤكد على أن الشورى هي الركيزة الأساسية للحكم الرشيد في الإسلام، الذي يجمع بين الدين والسياسة دون تهميش أو إقصاء. كما يجب الاستناد إلى المنظومة الديمقراطية المعاصرة التي تكفل الحريات الفكرية، وتضمن نزاهة العملية السياسية.
إن النهج الذي يتبنى فرض حل الجماعة ودمجها القسري في الدولة تحت لواء حزب واحد، سيولد حتمًا إشكالات جسيمة، لم نتعظ من دروس التجارب المريرة السابقة. فمثل هذا الإجراء التعسفي سيساهم في تأجيج التوترات بدلًا من تهدئتها في العديد من الدول.
كما يؤكد الواقع المرير في التجارب القمعية التي لا تحصى، أن الفكر والعمل التنظيمي لا يمكن وأدهما بالقوة؛ فمهما بلغت حدة التصفية، سيعودان إلى الحياة بأوجه جديدة وأساليب مبتكرة، كما حدث في تجارب سابقة، مثل عودة الإخوان بعد القمع الوحشي في العهد الناصري، وعودة حركة النهضة وفوزها الساحق بعد عقود من قمع النظام العلماني المتطرف في تونس، والأمثلة الأخرى أكثر من أن تحصى في هذا المقام.
ثانيًا: إرضاء القوى الدولية والإقليمية.. ليس معيارًا للشرعية الوطنية
يتضح جليًا من المقال أن هناك فكرة محورية تهيمن على تفكير الكاتب، وربما يعبر عنها كناطق بلسان الغير، وهي أن حل جماعة الإخوان سيحقق مكاسب خارجية، بينما بقية الأفكار والملاحظات ما هي إلا مقدمات يسوقها للوصول إلى النتيجة التي يصبو إليها.
لذا، أتوجه بالسؤال للدكتور أحمد: لماذا يطرح مقترح "حل التنظيمات" كـ"ثمن" بخس لإرضاء عواصم ومنظمات وشخصيات نافذة من الخارج؟! ألا يعد هذا إعادة إنتاج لنموذج الوصاية الخارجية البغيض، حيث يتم تقديم الأمن الإقليمي والعالمي على الحقوق المشروعة للداخل، مما يتنافى بشكل صارخ مع مبادئ السيادة الوطنية الراسخة؟
في سوريا الجديدة، يجب أن يستند معيار الشرعية الوطنية إلى الالتزام التام بالقانون والدستور، والمنافسة الانتخابية النزيهة، والاحتجاج بالقضاء الدستوري المستقل، لا الرضوخ لإملاءات واشتراطات خارجية متقلبة.
من الخطأ الفادح النظر إلى الأحزاب والجماعات على أنها منافس أو خصم للدولة؛ فكل الديمقراطيات الحقيقية تقوم على تنوع الأحزاب ووجودها الفاعل، مما يضفي شرعية حقيقية على الدولة، كما يتضح في تجارب أوروبا الغربية، حيث تعزز الأحزاب التنوع السياسي والاستقرار المجتمعي.
من الممكن والمنطقي تفهم المطالبة بـ"حل التنظيمات العسكرية والفصائل المسلحة"؛ لأنها تمثل تهديدًا حقيقيًا للسيادة الوطنية، ولكن ما الداعي إلى حل القوى المدنية السلمية؟! وبخاصة تلك التي تمتلك تاريخًا عريقًا في النضال ضد الاستبداد، كجماعة الإخوان المسلمين؟
وهنا، لا بد من التعليق على أخطر عبارة وردت في مقال الدكتور أحمد موفق زيدان: "ومن الذي أولى بتثبيت الحكم، أبناء سوريا وتنظيماتها، أم دول إقليمية ودولية هبت لدعم الدولة الوليدة؟!"
فالسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بقوة: هل تُستمدُّ الشرعية الأقوى من الشعب ومكوناته الداخلية المتنوعة أم من قوى خارجية، خاصة وأن هذه القوى الخارجية غير مضمونة العواقب، وغالبًا ما تفضي إلى فقدان السيادة والاستقلال، كما يتضح في أمثلة ما بعد الثورات في ليبيا وأفغانستان، حيث أدى الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي إلى حالة من عدم الاستقرار المزمن؟
ثالثًا: أسطورة "الديناصور"
إن وصف الجماعة بـ"الديناصور" أمر مستغرب للغاية من الدكتور أحمد، خاصة بالنظر إلى تاريخه المديد وإنتاجه الأدبي الغزير وفهمه العميق لتجربة العمل الإسلامي. هذا الوصف ينطوي على إشكاليات عديدة، منها: عدم الدقة في الادعاء بأن كل أعضاء الجماعة في سوريا من كبار السن، ولا يجوز بحال من الأحوال أن توصف بالديناصورات رموز قدمت تضحيات جسيمة للحفاظ على فكرها ومقاومة المستبد، وقضت سنوات طويلة في الغربة بعيدًا عن الوطن. لقد أفنوا زهرة شبابهم خارج أوطانهم حتى شاب مفرقهم وضعفت صحتهم. وإن سلمنا جدلًا بهذا الوصف، فما الضرر الذي قد يلحق بسوريا وتوازناتها من وجود تجمع من "ختيارية"؟!
رابعًا: ما هي "الأساليب القديمة" المرفوضة تحديدًا؟
للتخلص من التهم الفضفاضة، يجب تناول هذه القضية بحيادية وموضوعية، بعيدًا عن العاطفة الجياشة أو "الشعاراتية" العامة، مع تحديد مواطن الخلل بدقة. فالأساليب القديمة لا تعني بالضرورة أنها سيئة أو منتهية الصلاحية، ومن الخطأ الفادح تعميم بعض هذه الأساليب على جميع المنتمين للجماعة في كل زمان ومكان.
مع الإشارة إلى أن هذه الأساليب متفاوتة في تقييمها وتطبيقها بين الدول والقيادات باختلاف قناعاتها وتكوينها؛ فهي ليست قالبًا واحدًا جامدًا، بل يمكن الحوار بشأنها، وترشيدها بما يتناسب مع السياقات الديمقراطية المتغيرة. فعلى سبيل المثال:
- يمكن تحويل التنظيم إلى بيئة مفتوحة تتبنى نظام تسجيل علني وحوكمة داخلية شفافة.
- في حال تزامن النشاط التنظيمي مع تولي العضو مناصب حساسة في الدولة، يمكن معالجة ذلك من خلال لوائح تنظيمية تهدف إلى منع تضارب المصالح، واعتماد معايير استحقاق موضوعية.
- يمكن ضبط لغة الخطاب الهوياتي المستقطب من خلال ميثاق مواطنة شامل يركز على بناء دولة وطنية يسود فيها العدل والمساواة بين جميع المواطنين.
- يمكن تقنين التمويل من خلال إفصاحات دورية مفصلة وتدقيق مستقل من قبل جهات رقابية متخصصة على أموال الأحزاب.
- يمكن تطوير العمل التنظيمي نحو منع تداخل الدعوي والسياسي في الجماعة من خلال فصل وظيفي ملزم: بحيث تصبح الجماعة منظمة مدنية مسجلة كمنظمة مجتمع مدني، وحزبًا سياسيًا مستقلاً يخضع لقانون الأحزاب النافذ.
تمثل هذه المجموعة من الإصلاحات الملموسة حصونًا واقية منيعة أمام من يسعى إلى إفراغ الساحة السياسية وإغراء الجماعات بالارتداد السلطوي، وتعتمد على مبادئ إسلامية أصيلة كالمساءلة والشفافية والعدل.
خامسًا: دروس مستفادة من تونس والمغرب والسودان
تشير التجارب السياسية في تونس والمغرب والسودان إلى أن التنازلات السياسية من قبل الحركات الإسلامية، من دون ضمانات دستورية ملزمة، غالبًا ما تؤدي إلى تراجع ديمقراطي لاحق، مما يؤكد على أفضلية الإصلاح الداخلي التدريجي على اللجوء إلى الحل الشامل للجماعة. وفيما يلي عرض موجز لبعض التفاصيل:
- تونس: في نهاية عام 2013، تنازلت حركة النهضة عن قيادة الحكومة عبر "الحوار الوطني" لحماية المسار الديمقراطي الناشئ وتمهيد الطريق لإقرار دستور جديد وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، مستلهمة من الفكر الإسلامي الوسطي الذي يؤمن بالتداول السلمي للسلطة، وخففت من حدة لهجتها في العديد من المسائل الفكرية والتنظيمية والشرعية، لكن خصومها لم يزدادوا إلا طعنًا وتحريضًا، إلى أن قام الرئيس التونسي في 25 يوليو/تموز 2021 بتغيير المشهد السياسي برمته، وشمل ذلك سجن الشيخ راشد الغنوشي، الذي كان رمزًا للتسامح في تلك المرحلة الحرجة.
- المغرب: تعرض حزب العدالة والتنمية المغربي لهزيمة ساحقة في انتخابات عام 2021، حيث خسر أكثر من 90% من مقاعده بعد عقد كامل من المشاركة في الحكم. وقد ربطت العديد من التحليلات الواقعية هذا الانهيار بـ"التماهي" مع قرارات عليا حساسة، مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني في ديسمبر/كانون الأول 2020، وتقديم تنازلات أخرى فكرية وتنظيمية، ولكن ذلك لم يثبت جدواه على الإطلاق.
- السودان: تجسد تجربة السودان هذه المعضلة بجلاء؛ فقد ابتعد الدكتور حسن الترابي عن تنظيم الإخوان المسلمين، وقدم دراسات ولقاءات ناقدة للجماعة، كما في كتابه الشهير "الحركة الإسلامية في السودان"، ومع ذلك لم يسْلم من تهمة "الأخونة". كذلك فإن الرئيس عمر البشير، الذي انفصل عن الجماعة منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يتمكن من تجنب هذا الوصف، ولم يؤدِ ابتعادهما عن الإخوان إلى تعزيز النهضة أو الاستمرار في السلطة في السودان، بل واجهت حكومتهما حالة من عدم الرضا الشعبي حتى بين المحافظين.
لذلك، وبعد استعراض هذه النماذج المتنوعة، نؤكد أنه ليس الحل في مصادرة الحق في التنظيم والتعبير؛ فالخلاصة العملية المستخلصة هي: أن التنازلات السياسية تفقد قيمتها إذا لم تصاحبها منظومة ضمانات دستورية ورقابية ملزمة للجميع، وإلا عاد ميزان القوى ليطيح بالطرف الأضعف في أول سانحة.
سادسًا: أين الدليل القاطع على أن "الإخوان يشكلون عائقًا أمام النظام الجديد"؟
إن الادعاء بأن الجماعة تشكل "عائقًا" يتطلب تقديم أدلة دامغة ومحددة وموثقة، تتمثل في:
- ما هي المخالفة القانونية الملموسة التي ارتكبتها الجماعة؟
- ما هو الضرر الأمني المباشر الذي تسببت به؟
- ما هي الوقائع المادية التي تدل على تعطيلها لمؤسسات الدولة الوليدة؟
فمن دون تقديم هذه الأدلة القاطعة، يتحول الادعاء إلى حكم قيمي غير موضوعي. لقد أثبتت التجارب القمعية التي لا تحصى- منها العراق، وتونس، ومصر في عهد عبدالناصر- أن الحظر لم ينهِ الحضور الاجتماعي للجماعات المحظورة، بل فتح الأبواب أمام الاحتقان الاجتماعي ودفع النشاط إلى العمل السري، مما ساهم في ترسيخ وجودها بصورة معادية للدولة. وقد عادت هذه الجماعات المحظورة إلى الظهور بقوة بعد فترة منعها وقمعها، والتاريخ مليء بالشواهد الدالة على ذلك.
سابعًا: الفكر الإخواني.. بين الدين والسياسة
من الجدير بالذكر أنه من الصعب الفصل بين وجهة نظر الكاتب زيدان وتلك الخاصة بالمؤسسة التي يرتبط بها، كالرئاسة أو الهيئات الرسمية، إذ أن الدعوة لحل الجماعة قد تعكس أجندات سياسية أوسع نطاقًا، كما يتضح في مقاله الأخير الذي يدعو فيه إلى حل الإخوان كشرط أساسي لتحقيق الاستقرار.
والإجابة على فكرة "الحاجة للوجود" التي طرحها الدكتور زيدان في مقاله، هي أن الإخوان المسلمين، كفكر مستند إلى الإسلام، يمتلكون منظومة تفكير وتنظير خاصة بهم، يتفقون فيها مع الآخرين أو يختلفون، ولا يعني ذلك أنهم غير ملتزمين بالعمل من أجل الدين؛ بل قد يعمل غيرهم للدين بصورة أفضل أو مختلفة، ولكن الحل الشامل يعني تفكيك فكر وسطي يسعى للعمل بحرية ضمن الإطار الديمقراطي المشروع.
كما يعد الإخوان تيارًا معتدلًا يوازن بين المكونات السنية في وجهات نظرها المتباينة عقديا ومذهبيا وسياسيا.
لقد وقفت جماعة الإخوان المسلمين صفًا واحدًا مع الثورة السورية ضد نظام الأسد، ولعبت دورًا محوريًا في الاحتجاجات السلمية منذ عام 2011، وكان مشهودًا لها بتنظيم المعارضة رغم القمع الوحشي الذي تعرضت له في السابق، وكانت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ النضال ضد الاستبداد منذ سبعينيات القرن الماضي. فهم جزء أصيل من هذا التاريخ، مما يجعل تقييم "الأساليب القديمة" أو "أخذ الفرصة" بحاجة إلى نهج علمي موضوعي مدعوم بدراسات مقارنة لتجنب التحيزات المسبقة، لا مجرد إطلاق عبارات عامة عاطفية.
ثامنًا: موقف الإخوان المسلمين في سوريا من النظام الحالي
إن الهدف الأسمى للإخوان وجميع الأحرار هو بقاء سلطة النظام الحالي بعيدًا عن تقييم حالته ورموزه، ولكن لكونه أكثر حرية من النظام السابق وأقرب إلى الدين إلى الآن، فهم ليسوا خصومًا له، بل شركاء فاعلون في تعزيز الاستقرار من خلال تبني الفكر الوسطي الرشيد.
أيضًا، بالمقابل، من مصلحة النظام بقاء الإخوان، لكونهم يمثلون الفكر الوسطي الذي يوازن بين المكونات السنية في وجهات نظرها المتباينة في العقيدة والمذهبية والنظر إلى السياسة، مما يمنع التطرف ويعزز الوحدة الوطنية، وخاصة مع التناحر والفتن الحالية التي تستهدف النيل من الحالة الدينية في سوريا، بمختلف أنواع التطرف وصورها وتقابلاتها.
لذلك، نوجه نداء مخلصًا للدكتور أحمد موفق زيدان ولمن يحمل فكرته، مهما كانت نواياهم وأهدافهم التي نحسن الظن بها: يرجى التريث والتحقيق المتعمق في هذه القناعة؛ فربما تكشف الأحداث الواقعية عدم صحتها.