الورقة الأمريكية للبنان- نزع سلاح حزب الله أم تفكيك الدولة؟

مع انتهاء الصراع الإسرائيلي-الإيراني دون تحقيق نصر حاسم لأي من الطرفين، اجتازت المنطقة مرحلة سياسية معقدة للغاية، تسعى خلالها الولايات المتحدة إلى فرض نموذج جديد للأمن الإقليمي، ينطلق من طهران ويمتد حتى بيروت.
في خضم هذه التغيرات الجارفة، وجهت واشنطن رسالة جلية إلى لبنان هي الأوضح منذ سنوات عديدة، وذلك عبر المبعوث الرئاسي توم باراك، الذي قدم جملة من الشروط السياسية والأمنية تحت ستار التسوية، جوهرها نزع سلاح حزب الله في غضون خمسة أشهر، لقاء انسحاب إسرائيلي تدريجي، وإطلاق مسار اقتصادي ومالي مشروط بتنفيذ إصلاحات جذرية.
لكن ما يبدو ظاهريًا مجرد صفة، يحمل في طياته تهديدات مستترة، وإشارات واضحة إلى أن لبنان أمام "خيار لا بديل عنه"، وإلا.. سيدفع الثمن.
تتمركز المبادرة الأميركية حول ثلاث دعائم رئيسية:
- التخلي عن سلاح حزب الله، من خلال آلية "خطوة مقابل خطوة" تبدأ بتسليم الأسلحة الثقيلة مقابل انسحاب إسرائيلي من التلال المحتلة، ثم تسليم الطائرات المسيرة مقابل خطوات تالية.
- ترسيم الحدود مع كل من سوريا وإسرائيل، بما يشمل مزارع شبعا التي تعتبرها واشنطن "أرضًا سورية"، مطالبة بيروت بالاعتراف بذلك، وطي صفحة المطالبات بها بشكل نهائي.
- تطبيق إصلاحات اقتصادية ومالية قاسية، تتضمن إغلاق مؤسسة "القرض الحسن"، وتقويض اقتصاد الكاش الذي يتهم حزب الله بالسيطرة عليه، وتشديد الإجراءات الأمنية على المعابر الحدودية.
هذه المقترحات ليست مستحدثة كليًا، لكنها مجتمعة تشكل ضغطًا هائلًا على حزب الله، وتضع على عاتق الدولة اللبنانية مسؤولية التنفيذ خلال فترة زمنية قصيرة، دون تقديم ضمانات كافية، أو وضع خطة متكاملة لتجنب الانهيار السياسي أو الأمني المحتمل.
الأمر الأكثر خطورة في هذه المبادرة هو تجاهلها التام لقضية الضمانات. فلا توجد آلية تحكيم دولية في حال تنصلت إسرائيل من التزاماتها، ولا توجد آلية تنفيذية تضمن الالتزام بالخطوات المتبادلة. وبالنسبة لحزب الله، فإن تجربة القرار الأممي رقم 1701 تعتبر دليلًا قاطعًا على أن إسرائيل لا تلتزم بتعهداتها، ولا تعير اهتمامًا حتى لموقف واشنطن، إذا تعارضت مصالحها.
علاوة على ذلك، فقد سرت أنباء مفادها أن باراك صرح للرئيس نبيه بري قائلًا: "سلمونا السلاح ولن نطالبكم بالإصلاحات". هذه العبارة وحدها كفيلة بتأكيد النوايا الحقيقية وراء هذه المبادرة: نزع سلاح الحزب في نهاية المطاف، بأي ثمن كان، وذلك لتعزيز أمن إسرائيل فحسب.
منذ تسلم الورقة في منتصف شهر يونيو، دخلت المؤسسات اللبنانية في حالة من الفوضى والتردد. فاللجنة الثلاثية التي تمثل الرؤساء لم تتوصل بعد إلى صيغة موحدة للرد، على الرغم من الاجتماعات المتواصلة التي تعقد يوميًا في قصر بعبدا.
وتكشف مصادر مطلعة أن الخلاف لا يقتصر فقط على مضمون النص، بل يتعلق بالأولويات: هل نبدأ بالمفاوضات حول السلاح، أم نطالب بضمانات مسبقة؟ هل نقرن التنازلات بمكاسب واضحة، أم نترك الأمور رهن التطورات المستقبلية؟
الجيش اللبناني انخرط بدوره في هذا الملف. فقد قام قائده، رودولف هيكل، بزيارة الرؤساء الثلاثة لمناقشة جاهزية المؤسسة العسكرية لتسلم المناطق الواقعة شمال نهر الليطاني، والقيام بدور الضامن المحلي لأي اتفاق يتم التوصل إليه. ولكن حتى داخل المؤسسة العسكرية، لا يبدو أن هناك حماسًا كبيرًا لتولي دور غير مضمون العواقب، وخاصة في غياب تفاهم وطني شامل.
في المقابل، يتعامل حزب الله مع هذا الملف بحذر بالغ. فهو لا يرفض مبدأ الحوار من حيث المبدأ، لكنه يرفض الإملاءات الخارجية، وخاصة إذا كانت صادرة من دولة داعمة لإسرائيل.
ما يقترحه الحزب في المقابل هو صيغة "إستراتيجية دفاعية لبنانية"، مشابهة لما طرحه الرئيس ميشال عون في خطاب القَسَم، وتقوم على:
- تنظيم السلاح ضمن خطة وطنية شاملة.
- ربط السلاح بالتحرير الكامل لكافة الأراضي المحتلة.
- إشراف مؤسسات الدولة الرسمية على المسار التنفيذي.
- وقف الاعتداءات والاغتيالات السياسية.
- تقديم دعم دولي لعملية إعادة الإعمار.
لكن الحزب يدرك في الوقت ذاته أن الخيارات المتاحة تتقلص باستمرار. فقد صعّدت إسرائيل من وتيرة عملياتها العسكرية بضربة النبطية في شهر يونيو، وهددت بتنفيذ المزيد من الهجمات في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، إذا لم يبادر لبنان إلى التحرك. والمبعوثون الأميركيون، وعلى رأسهم باراك، ينقلون رسائل مشفرة: "تجاهلوا هذه الورقة… وسوف ترون النتائج الوخيمة".
تتعامل المبادرة الأميركية مع لبنان على أنه "ساحة تابعة" لتفاهمات إقليمية أوسع، ولا سيما مع سوريا. وفي هذا السياق، يتم التداول بمسألة ترسيم الحدود مع دمشق، والتنسيق الأمني المشترك، وحتى إعادة بناء العلاقات السياسية بين البلدين.
ولعل أخطر ما في هذه المبادرة هو الضغط على لبنان للاعتراف بسيادة سوريا على مزارع شبعا، وهو ما يعني فعليًا إغلاق الباب أمام مبرر "المقاومة المسلحة"، وفقًا للرواية اللبنانية الرسمية.
كما أن التطورات الأخيرة في العلاقات السورية-الإسرائيلية لا يمكن فصلها عن هذا السياق. فالتقارير التي تتحدث عن مفاوضات غير مباشرة بين دمشق وتل أبيب لتحديث اتفاقية فصل القوات، تجعل من "الساحة اللبنانية" هدفًا ثانويًا لإغلاق ملف حزب الله، كجزء من الترتيبات الأمنية على الحدود في الجولان وجنوب لبنان.
وعلى الرغم من أن حزب الله يتعامل مع هذا الملف بمنطق وطني واضح، فإن البعد الإيراني لا يمكن تجاهله. فالموقف الإيراني من نهاية الحرب مع إسرائيل ينعكس بصورة مباشرة على قرار الحزب. وتعتبر طهران أنها خرجت منتصرة نسبيًا من هذه المواجهة، حيث فشلت تل أبيب في تحقيق أي هدف إستراتيجي، في حين تجسدت وحدة إيرانية داخلية وإجماع إقليمي على دعم طهران.
انطلاقًا من هنا، ينظر حزب الله إلى مرحلة ما بعد الحرب على أنها "فرصة لتعزيز صموده"، ويرى أن أي تنازل في الوقت الراهن سيكون بمثابة هدية مجانية لإسرائيل، التي منيت بهزيمة في الحرب، وتسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية تعوض إخفاقاتها العسكرية.
والأمر الأكثر خطورة في هذه المبادرة أنها تُطرح على أنها مشروع "سلام"، بينما هي في الواقع مشروع لتفكيك تدريجي لمنظومة الردع التي أرساها حزب الله منذ عام 2006.
وحتى إذا وافق الحزب على بدء النقاش، فإن كل بند من بنودها يحتاج إلى مفاوضات متأنية، وشراكة وطنية حقيقية، وتفاهمات داخلية عميقة، وليس أن تُفرض كجدول زمني للتسليم والاستلام تحت وطأة التهديدات الجوية.
كما أن الجانب الاقتصادي للمطالب يندرج في إطار سياسة الخنق المالي والسياسي للبيئة الداعمة للحزب، وهو ما يُعتبر بمثابة "إقصاء سياسي واجتماعي" لشريحة واسعة من الشعب اللبناني، في ظل انهيار اقتصادي حاد، وتراجع قدرة الدولة على حماية مواطنيها.
بعد تسلم المبعوث الأميركي توم باراك الرد اللبناني خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت، يُنتظر أن يتم حسم التفاصيل النهائية في الأيام القليلة المقبلة، ولكن السيناريوهات المحتملة لا تزال مفتوحة على مصراعيها:
- في حال التوصل إلى اتفاق مع الحزب: سيكون هناك مسار تفاوضي طويل الأمد، قد يعزز الاستقرار النسبي، ولكنه يواجه صعوبات لوجستية جمة ومعوقات كبيرة.
- في حال فرض الرد دون موافقة الحزب: سيواجه لبنان أزمة سياسية عميقة، وربما انهيارًا حكوميًا وشيكًا، وانفلاتًا أمنيًا في المناطق الجنوبية.
- في حال رفض المبادرة بشكل قاطع: سيتعرض لبنان لمزيد من الضغوط العسكرية والاقتصادية، في ظل إدارة أميركية-إسرائيلية متعطشة لتحقيق "نجاح ما" بعد الإخفاقات المتتالية في غزة وإيران.
في الختام، لا تكمن خطورة المبادرة الأميركية في محتواها فحسب، بل في التوقيت الذي طُرحت فيه والسياق العام الذي يحيط بها. فنحن أمام محاولة لإعادة تشكيل الواقع السياسي والأمني في لبنان، من خلال الضغوط الخارجية، وليس من خلال الحوار الداخلي البناء. وبين من يدعو إلى الانخراط فيها، ومن يرفضها رفضًا باتًا، يبقى لبنان مهددًا بالانزلاق إلى مواجهة جديدة، إن لم تكن عسكرية، فسياسية وجودية لا تقل خطورة.
إنه اختبار حقيقي للدولة اللبنانية، وليس لحزب الله فحسب. اختبار لقدرتها على اتخاذ قرار سيادي متوازن، يضمن الأمن والاستقرار دون التنازل عن الحقوق المشروعة، ويحافظ على الاستقرار الداخلي دون أن يفقد لبنان هويته وسيادته.
فهل ستنجح بيروت في الإمساك بتلك الخيوط الدقيقة بين التفاهم والفرض؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة على هذا السؤال المصيري.