إعادة تشكيل الشرق الأوسط- تركيا تتصاعد وإسرائيل تتراجع

بينما تنشغل وسائل الإعلام بالدعاية الإسرائيلية، التي تصورها على أنها قوة عظمى تعيد تشكيل منطقة الشرق الأوسط، في محاولة لرسم صورة وردية زائفة، تعمل تركيا بهدوء وثبات على استعادة مكانتها التاريخية المرموقة في المنطقة. لا تسعى أنقرة إلى لعب دور القوة الإمبريالية، بل تعمل كدولة رائدة ذات مشروع حضاري وإنساني، يقوم على التعاون البناء والشراكة المثمرة، ويحظى بقبول واسع في منطقة يشكل الإسلام فيها جزءا محوريا من هويتها.
في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 2024، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قائلاً: "إن كل الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقتنا، وخاصة في سوريا، تذكرنا بحقيقة راسخة: أن تركيا أكبر بكثير من حدودها الجغرافية. ولا يمكننا كشعب أن نحصر طموحاتنا وآفاقنا في حدود ضيقة". وأضاف قائلاً: "لا تستطيع الأمة التركية أن تتنصل من قدرها ومسؤولياتها التاريخية".
وبعد أربعة أيام فقط، في الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، أكد زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي على هذه الرؤية قائلاً: "لقد علمنا التاريخ أن الخطوة الأولى نحو تحرير القدس هي تأمين دمشق. فإذا كانت دمشق آمنة ومستقرة، فسيحين الوقت لتكون القدس آمنة أيضا".
كما وجه بهتشلي تحذيراً شديد اللهجة إلى تل أبيب، التي "توجه أنظارها شزراً نحو دمشق"، مؤكداً أنها "ستتلقى صفعة قوية من العثمانيين في القدس".
وقد أشار خبراء ومحللون متخصصون في الشأن التركي إلى أن هذين التصريحين، اللذين صدرا عن أردوغان ثم بهتشلي، يندرجان في إطار رؤية حضارية أوسع، تعيد "تركيا الجديدة" إلى موقع استئناف إرثها العثماني المجيد، عصر الإمبراطوريات الكبرى، عندما حكمت العالم لأكثر من ستة قرون. هذه الفكرة لا تزال تثير قلقاً عميقاً، ليس فقط في إسرائيل، بل أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها.
في المقابل، تحظى سياسات أنقرة، في نسختها الإسلامية المعتدلة، بصدى إيجابي لدى شريحة واسعة من المسلمين السنة والإسلاميين السياسيين، وتقدم نموذجاً ملهماً لتطلعات الإصلاحيين السياسيين في المنطقة المحيطة بها.
يقول ياروسلاف تروفيموف، كبير مراسلي الشؤون الخارجية في صحيفة وول ستريت جورنال: "من الواضح أن تركيا سيكون لها الصوت الأكثر تأثيراً في دمشق في المستقبل القريب، وسوف يتزايد نفوذها تدريجياً في مناطق أخرى أبعد من ذلك بكثير".
ويضيف تروفيموف: "هذا يجعل أردوغان أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق طموحاته في توسيع نطاق نفوذه ليشمل الأراضي العثمانية السابقة، وصولاً إلى ليبيا والصومال".
بينما تراوح إسرائيل مكانها الجغرافي، وظلت أسيرة بضعة مخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وشريط حدودي ضيق في لبنان انسحبت منه لاحقاً، فإن تركيا تعمل على بسط نفوذها بهدوء وثبات، ليتجاوز حدودها العثمانية القديمة.
وقد سجلت صوفي سيبان بيكاش وسيمون سيروسي، في مقال لهما على موقع "المجلس الأطلسي" Atlantic Council، ما يشبه الانهيار التدريجي للحضور الإسرائيلي في القارة الأفريقية، وتراجعه الملحوظ، بعد عدوانها الوحشي على قطاع غزة، إلى أقل من 40%. ويقولان: "إنه اعتباراً من عام 2024، تفتقر إسرائيل إلى سياسات اقتصادية ودبلوماسية طموحة لتطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية".
ويضيفان: "بينما كان لدى إسرائيل ثلاثة وثلاثون سفيراً في القارة الأفريقية في ستينيات القرن الماضي، فإن الدولة اليهودية لديها اليوم 13 بعثة دبلوماسية فقط، وثلاثة تمثيلات اقتصادية وملحق عسكري واحد في جميع أنحاء أفريقيا، وذلك بالتزامن مع تصنيفها المتزايد، على الصعيد الدولي، كدولة منبوذة، وذلك بفضل الجهود الحثيثة التي بذلتها دول أفريقية، والتي ناضلت بشجاعة ونجحت في إدانتها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية".
في المقابل، عززت تركيا حضورها الدبلوماسي والأمني في أفريقيا بشكل ملحوظ. ففي الماضي، كان نفوذها يقتصر في الغالب على شمال أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي، بسبب الروابط الجغرافية والدينية المشتركة. بيد أن هذا النفوذ قد توسع ليشمل دول غرب أفريقيا، مثل نيجيريا والسنغال، وكذلك دول منطقة الساحل.
وتشير الأرقام والإحصائيات إلى أنه حتى عام 2002، لم يتجاوز عدد السفارات التركية في أفريقيا 12 سفارة. ومع بداية عام 2022، ارتفع هذا العدد إلى 44 سفارة. وخلال العقدين الماضيين، ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا من 5.4 مليارات دولار إلى أكثر من 40 مليار دولار في عام 2022.
ويتزامن هذا التوسع مع تحول تركيا إلى لاعب رئيسي في المشهد الأمني المتغير في القارة السمراء، من خلال إبرامها اتفاقات دفاعية مع دول في غرب وشرق أفريقيا، بما في ذلك إثيوبيا وكينيا وغانا ونيجيريا ورواندا، بالإضافة إلى عقود بيع أسلحة بمليارات الدولارات.
وفي عام 2011، لعبت تركيا دوراً محورياً في الصومال من خلال تقديم المساعدات الإنسانية خلال فترة المجاعة، وأنشأت في عام 2017 قاعدة "توركسوم" العسكرية في مقديشو، وهي أكبر منشأة تدريب عسكري لها في الخارج.
وفي عام 2019، تدخلت تركيا عسكرياً في الحرب الأهلية في ليبيا، من خلال دعم حكومة طرابلس ضد قوات الجنرال خليفة حفتر.
علاوة على ذلك، فإن النظام العالمي المتفكك، جعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي تصميم سياسة أفريقية متماسكة. كما فشلت معظم المبادرات التي أطلقتها الولايات المتحدة في القارة السمراء، مما أدى إلى تقارب "تركي - أفريقي" على حساب مصالح المنافسين التقليديين، وعلى رأسهم فرنسا، وإسرائيل التي كانت تتطلع إلى تعزيز نفوذها في أفريقيا منذ ستينيات القرن الماضي.
لقد أصبحت تركيا مؤخراً أقرب إلى مصر، ويعزى ذلك في الغالب إلى تقارب وجهات النظر بشأن الصراعات في السودان وغزة. كما تدير أنقرة بمهارة علاقاتها مع كل من المغرب والجزائر، وهما من المنافسين الإقليميين.
وفي منطقة الساحل والقرن الأفريقي، يُنظر إلى تركيا على أنها أقل إثارة للمشاكل من روسيا ومجموعات فاغنر، وأكثر شعبية من القوى الاستعمارية السابقة.
وفي آسيا، التي يشكل المسلمون 40% من سكان مناطق شاسعة منها، أصبحت هذه المنطقة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، منطقة عصية على الاختراق الناعم أو الأمني الإسرائيلي. وفي المقابل، تنظر دول آسيا الوسطى إلى تركيا باعتبارها نموذجاً يمكنها الاقتداء به، وهو النموذج الذي حقق نجاحاً ملحوظاً رغم الانتقادات الموجهة إليه!
وتتفوق تركيا على إسرائيل في أنها دولة تندرج ضمن العديد من التصنيفات: فهي اقتصاد أوروبي متكامل، وقوة إقليمية كبرى في منطقة الشرق الأوسط، ومركز بحري حيوي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وهي أيضاً أمة إسلامية ذات ثقافة عريقة.
ولا يمكن لأي مراقب محايد أن يتجاهل حقيقة الهوية الجيوسياسية الفريدة لتركيا، والتي تحتوي على عنصر مهم آخر: وهو هويتها التركية. وتعتمد أنقرة بشكل متزايد على هذه الهوية لتعزيز وتوسيع علاقاتها الاقتصادية مع الدول التركية الشقيقة، التي يقع معظمها في منطقة آسيا الوسطى.
خاصة أن روسيا كانت تقليدياً القوة الإقليمية المهيمنة في تلك المنطقة، ولكن مع تراجع نفوذها المتزايد في الاقتصاد العالمي، بعد حربها على أوكرانيا، احتلت تركيا مكانها بسهولة ودون أي عوائق أو تكلفة سياسية.
وحتى على مستوى الثقل في العلاقات الدولية الأوسع، بما في ذلك العلاقات مع أوروبا، فإن تركيا هي "الشريك الأكبر" مقارنة بإسرائيل، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الأخيرة على قدم المساواة مع تركيا في هذا الإطار.
فبينما تعد تركيا أكبر الشركاء التجاريين للاتحاد الأوروبي، حيث تجاوزت صادراتها إلى الاتحاد 93 مليار دولار في عام 2021، فقد بلغت قيمة الصادرات من إسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي ما يقرب من 18 مليار دولار أمريكي في العام ذاته.
باختصار، فإن المشروع التركي، بما يحمله من أبعاد تاريخية ودينية، واستناداً إلى الأرقام والواقع الملموس على الأرض، هو المشروع "الإنساني" الأوفر حظاً ليتبوأ مكانة مركزية في منطقة الشرق الأوسط، باعتباره النموذج الملهم الذي يعيد تشكيل المنطقة بالتراضي والقبول، وليس إسرائيل "المتعجرفة"، التي دفنت كل تطلعاتها في المنطقة تحت أنقاض غزة المدمرة.