تلازم المسارين السوري واللبناني- عودة الجدل وتجدد الانقسامات.

إن "تلازم المسارين" السوري واللبناني، مصطلح انبثق في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت سنة 1982، عقب إخراج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها من العاصمة اللبنانية، وخصوصاً بعد إبرام لبنان اتفاقًا مع إسرائيل عُرف بـ"اتفاق 17 أيار 1983"، وهو الاتفاق الذي قُضي عليه قبل التصديق عليه، نتيجة "انتفاضة شعبية مسلحة".
وفي هذا الصدد، لعبت حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي دورًا محوريًا في إشعال فتيل الانتفاضة، وذلك بدعم كامل من الجمهورية العربية السورية وفصائل فلسطينية وثيقة الصلة بدمشق، الأمر الذي أفضى إلى تقويض غالبية مفاعيل وتداعيات حرب عام 1982 على المقاومة الفلسطينية والدولة اللبنانية، وبصورة جلية، عودة النفوذ السوري الكاسح على لبنان، عقب سلسلة من الضربات الموجعة التي تلقتها دمشق في تلك الحرب، وتعاظم نفوذ حركة "أمل" و"الحركة الوطنية"، والتمهيد لصعود حزب الله كقوة أساسية على الساحة اللبنانية المتأرجحة، ليشق طريقه لاحقًا إلى ساحات إقليمية أرحب، خاصة بعد نجاحه الباهر في طرد قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، دون قيد أو شرط، في الخامس والعشرين من أيار عام 2000.
آنذاك، تمحورت الرؤية السورية حول فكرة مفادها أن لبنان ممنوع عليه إبرام أي اتفاق سلام أو تطبيع للعلاقات مع إسرائيل، قبل سوريا أو بمعزل عنها، وأن المسارين السوري واللبناني، متلازمان على نحو وثيق، فلا يسبق أحدهما الآخر، ولا يتخلف عنه، الأمر الذي أثار انقسامًا حادًا بين أطياف الشعب اللبناني، حيث عارضته قوى سياسية وازنة، مسيحية في جوهرها، مدعومة ببعض الزعامات التقليدية من الطائفتين السنية والشيعية على حد سواء، والذين تضاءل دورهم وتأثيرهم لاحقًا، إثر تخفيف لبنان من وطأة الغزو الإسرائيلي، وظهور المقاومة الإسلامية (الشيعية تحديدًا)، وبداية صعود "التيار الحريري السياسي" على حساب البيوتات السنية العريقة. في المقابل، أيدت هذا الطرح قوى ذات وزن أيضًا، تضم "الثنائي الشيعي" والحزب التقدمي الاشتراكي، بالإضافة إلى فلول الحركة الوطنية اللبنانية، مدعومة بنفوذ إيراني متزايد في البلدين "المتلازمين".
إلى ذلك، سيطفو مصطلح "التلازم" على سطح النقاشات السياسية اللبنانية المتوترة مع انطلاق عملية السلام في العاصمة الإسبانية مدريد، وسيحتدم الجدل المحتدم حول مدى "صلاحيته" بالنسبة إلى الوضع اللبناني، مع "انفضاض الجمع العربي"، وظهور ما عُرف بـ"سباق المسارات" الذي انتهى بتوقيع الفلسطينيين اتفاق أوسلو التاريخي والأردنيين معاهدة وادي عربة مع إسرائيل، بينما سنحت "فرصة" في مسار التفاوض العربي–الإسرائيلي كادت فيها دمشق أن تسبق الجميع نحو المحطة الأخيرة من قطار التفاوض، وقد عبّر عنها خير تعبير وزير خارجيتها آنذاك: فاروق الشرع، بقوله المأثور: "كل مين يقلّع شوكه بإيدو"، وذلك وفقًا لرواية رئيس الوزراء الأردني الراحل فايز الطراونة.
تجدر الإشارة إلى أن مقولة "تلازم المسارين"، ذات المنشأ السوري الخالص، لم تمنع دمشق على الإطلاق، من اختبار حظوظها المتجددة في التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، حيث خاضت القيادة السورية، تحت حكم الرئيسين الراحل حافظ الأسد والابن بشار الأسد، جولات مكثفة من التفاوض غير المباشر، تارة برعاية أمريكية وأخرى تركية، إلا أن ظروفًا قاهرة وتعقيدات اللحظة الحاسمة، علاوة على الحسابات والتقديرات الخاطئة، حالت دون تتويج تلك الجهود بإبرام اتفاق أو معاهدة سلام، الأمر الذي أوحى للعديد من اللبنانيين، بأن قصة "التلازم" ليست في حقيقة الأمر سوى تجسيد مبهم لرغبة دمشق في تقييد المسار التفاوضي اللبناني، بهدف تعزيز موقعها ودورها الإقليميين، وعلى أقل تقدير، لتدعيم موقعها التفاوضي مع الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
وفي الوقت الراهن، تعود المناقشات المحتدمة بشأن تلازم المسارين أو انفصالهما، لتتصاعد مجددًا في لبنان ومحيطه، مدفوعة بالتطورات العاصفة التي أعقبت عملية "طوفان الأقصى"، لا سيما بعد أن أبدت الإدارة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس بشار الأسد، رغبتها الأكيدة في التفاوض واستعادة التهدئة مع إسرائيل، خاصة على خطوط التماس الملتهبة في الجنوب السوري، والتي عمدت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة إلى توسيعها وتعريضها، عبر احتلالها قمم جبال الشيخ ومساقط المياه في حوض نهر اليرموك، واستئنافها سياسة البلطجة واستباحة الأراضي والأجواء السورية على نطاق واسع، دون أن تستبعد –الإدارة السورية– خيار السلام النهائي مع إسرائيل والالتحاق بالركب الإبراهيمي في محطة من محطاته اللاحقة، بالتزامن مع عودة الحديث خارجًا عن السياق، عن "العدو المشترك"، في إشارة واضحة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ونقول خارج السياق، لأن حديثًا كهذا لم يعد ذا جدوى، بعد تطبيع العلاقات الدبلوماسية على ضفتي الخليج العربي بين العرب والإيرانيين.
ويربط العديد من اللبنانيين، وغالبيتهم الساحقة من الخصوم التاريخيين لنظام الرئيسين "الأسدين"، انفتاح الدول العربية والمجتمع الدولي على سوريا ونظامها الجديد، وانتعاش آمال السوريين بقرب التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، بالإشارات المتواصلة التي تبعث بها القيادة السورية الجديدة إلى جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك تل أبيب، ورسائل "حسن النية" المتمثلة في إغلاق المكاتب والمعسكرات التدريبية الفلسطينية، وإخراج قيادات فلسطينية رفيعة المستوى من الأراضي السورية، والإفراج عن رفات جنود إسرائيليين وأرشيف ومتعلقات الجاسوس الإسرائيلي الشهير: إيلي كوهين، والتي امتدت كذلك لتشمل إغلاق مكاتب جبهة "البوليساريو" الانفصالية بحضور رسمي للمملكة المغربية.
ويتلخص لسان حال هؤلاء في القول: إذا كان الأمر محمودًا بالنسبة إلى سوريا، فلماذا لا يكون محمودًا للبنان أيضًا؟ وإذا كانت دمشق ترى في وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وإكراهات إعادة الإعمار ورفع العقوبات الدولية الجائرة، مبررًا كافيًا لسياساتها الانفتاحية الجديدة، فإن لبنان بدوره، يدفع أثمانًا باهظة للاعتداءات والاستباحة الإسرائيليتين، وهو في أمس الحاجة للتعافي وإعادة الإعمار، فضلاً عن معاناته المريرة من العقوبات والمصاعب الناجمة عن تصنيفه في "المنطقة الرمادية"، ودولته، شأنها شأن الدولة السورية، تعاني هشاشة بنيوية، وبحاجة ماسة إلى من ينقذها من براثن الانهيار قبل فوات الأوان.
بلغة أخرى، تذهب مقاربات هذا الفريق أبعد من ذلك بكثير، إذ لا تني أركانه عن إجراء المقارنات الحادة بين أداء الرئيس الانتقالي لسوريا، وأداء الفريق الرئاسي (ترويكا الرئاسات اللبنانية)، حيث يرى الفريق الأول أن الرئيس السوري يبدي حزمًا ملحوظًا وشجاعة فائقة في اتخاذ المواقف والتدابير المناسبة، في حين أن سلوك الفريق الثاني يتسم بالتردد والتأرجح، مما يهدد فرص لبنان، ويحول الاهتمام والرعاية الدوليين نحو دمشق، بدلاً من بيروت. وكأننا إزاء "منافسة حادة بين المسارين": السوري واللبناني، وليس "تلازمهما" فحسب، ودائمًا في اتجاه طي صفحة الصراع المرير وفتح صفحة جديدة من السلام والوئام مع إسرائيل.
ويعرب هذا الفريق عن استيائه الشديد من إحدى "المسلمات" الراسخة في صميم السياسة اللبنانية، والتي استقرت على مدار الأربعين سنة الماضية، ومفادها أن لبنان هو آخر دولة عربية توقع اتفاق سلام وتطبيع للعلاقات مع إسرائيل. ويرى هذا الفريق، أن هذه الفرضية قد عفا عليها الزمن، وأن البيئة الإقليمية بتوازناتها المستجدة، والعالم من حول لبنان، يدفعانه دفعًا نحو مراجعتها الشاملة، وانطلاقًا من القاعدة الصلبة ذاتها: "كل مين يقلع شوكه بإيدو". ويؤكد هذا الفريق أن هذه الفرضية لم تعد تحظى باهتمام أي من اللاعبين الدوليين، استنادًا إلى التأكيد الأميركي المتكرر، على أن لبنان وسوريا مرشحان قويان للانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية، قبل غيرهما من الدول.
وبناءً على ذلك، فإن خصوم الأمس المتحمسين لنظرية تلازم المسارين، باتوا اليوم من أشد المؤيدين المتحمسين لهذه الفرضية، بل إن بعضهم الأكثر حماسة، لا يكتفون بالدعوة إلى تلازم مساري السلام والتطبيع، بل يحثون الرئاسات اللبنانية الثلاث على استباق سوريا في هذا المضمار، طالما أن "نافذة الفرج" ستفتح على مصراعيها بمجرد طي صفحة الصراع الدموي وفتح صفحة السلام والتطبيع مع عدو لا يزال يحتل مساحات شاسعة من الأراضي اللبنانية، وينتهك سيادة أراضيها وشعبها وأجوائها.
وفي المقابل، نجد أن أشد المتحمسين سابقًا لنظرية "تلازم المسارين"، هم اليوم من أشد معارضيها وخصومها، وفي مقدم هؤلاء حزب الله اللبناني وحلفاؤه من اللبنانيين والفلسطينيين. ولا يكف هذا الفريق عن تشويه سمعة النظرية وأصحابها، تارة لأسباب منطقية ومفهومة، تتصل بالعداوات والثارات القديمة والحديثة مع الكيان المحتل، وتارة أخرى لأسباب تتعلق بالعداء الدفين للعهد السوري الجديد، وأنصاره في لبنان، وبعض الذين لا يرون في سوريا الجديدة سوى مقاربتها المثيرة للجدل لملف العلاقة مع الاحتلال.
وهكذا، يتجدد الانقسام اللبناني المحلي القديم، ولكن الأطراف المعنية تتخذ مواقع وخنادق مختلفة، ويتبادلون الأدوار والمسؤوليات، وكل منهم، يحشد ما يراه مناسبًا من الحجج والبراهين والذرائع الواهية للتدليل على صواب مواقفه. والأمر نفسه ينطبق على اللاعبين الإقليميين والدوليين، فمن كان منهم يعارض بشدة تلازم المسارين في زمن الرئيسين الأسدين، يعود اليوم للحديث عن سوريا ولبنان كحزمة واحدة لا تتجزأ، فالجدل في واشنطن على سبيل المثال، دار وما زال يدور، حول ما إذا كان من الحكمة تكليف المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس بملف سوريا إلى جانب لبنان، أو أنه من الأفضل تكليف توماس باراك الموفد الأميركي إلى سوريا، وسفير واشنطن في أنقرة، بالملف اللبناني أيضًا. أم أن الحاجة الملحة تقتضي توزيع الأعباء الثقيلة على اثنين من الموفدين بدلًا من واحد.
وتكشف "التسريبات" اللبنانية، المعلنة منها والمضمرة، أن ثمة توجهًا قويًا لدى بعض عواصم القرار العربية، لتلزيم سوريا ملف لبنان الشائك والمعقد، ولكن في سياق متجدد، تمليه قواعد المرحلة الجديدة التي بدأت في السابع من تشرين الأول عام 2023، وتكرست في الثامن من كانون الأول عام 2024. ومثل هذه السجالات، تعيد إلى الأذهان، لا فكرة التلازم فحسب، وإنما عهد "الوصاية" السورية البغيض. أما المواقف حيال هذه "التسريبات"، فتكاد تتوزع بالكيفية ذاتها: فريق حزب الله يقف بالضد من هذا التوجه جملة وتفصيلاً، وفريق القوات اللبنانية وصحبه، يقف مؤيدًا له بقوة، وإن بأقدار متفاوتة من الحذر النابع من المرجعية العقدية للنظام السوري الجديد.
وختامًا، يمكن القول: إن لبنان الذي أمضى نحو نصف قرن من "الوصاية" و"التلازم"، يبدو أنه سيجد نفسه، راضيًا أم مكرهًا، تحت رحمة هذه الثنائية المشؤومة: "الوصاية" و"التلازم"، وربما لفترة طويلة أخرى من الزمن.