خطة لبنان الأمنية- توازن هش بين السيادة، الواقعية، وحسابات حزب الله

المؤلف: صهيب جوهر08.30.2025
خطة لبنان الأمنية- توازن هش بين السيادة، الواقعية، وحسابات حزب الله

في زيارته إلى بيروت، لم يحمل المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا ولبنان، توماس باراك، سوى رسالة تنطوي على قدر كبير من الإلحاح والضغط الدبلوماسي، مفادها أن واشنطن لا تفرض على لبنان توقيع اتفاقيات مجردة من الشروط، بل تلفت انتباهه إلى أن المنطقة تشهد تحولات متسارعة، وأن أي تباطؤ من شأنه أن يعزل بيروت عن مسار التفاهمات الإقليمية والدولية الجارية.

إن وتيرة التحركات الأمريكية المكثفة في المثلث الحدودي الحساس الذي يضم إسرائيل وسوريا ولبنان، تكشف عن سعي دؤوب لإعادة صياغة المشهد السياسي برمته، وذلك من خلال استبدال حالة الاشتباك المستمر بصيغة جديدة من الاستقرار المؤقت القابل للاستثمار، تمتد من منطقة الخليج العربي وصولًا إلى شواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط.

وفي هذا السياق المتشابك، يبرز اسم دونالد ترامب، كرجل أعمال محنك يرتدي حلة السياسة، ويعشق إبرام الصفقات الكبرى، ويُتداول الحديث عن زيارة مرتقبة يُراد لها أن تتوج ورشة عمل دبلوماسية وأمنية واسعة النطاق، انطلقت بالفعل عبر موفدين يتبادلون الزيارات المكوكية بين العواصم، ورسائل متبادلة، ومواعيد اختبار وتقييم متقاربة.

في كل من دمشق وتل أبيب، لم يعد مستغربًا بتاتًا الحديث عن قنوات اتصال أمنية وسياسية مفتوحة، وإن كانت في مراحلها الأولية، فالاجتماعات التي عُقدت في باريس بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، برعاية وحضور باراك، ليست مجرد إجراءات بروتوكولية شكلية، بل هي مؤشر واضح على أن الوساطة الأمريكية، بدعم من هوامش فرنسية وتركية، تدفع بقوة نحو ترتيبات أمنية عاجلة، تهدف إلى تقليل المخاطر المتصاعدة وتأسيس أعراف جديدة تمهد الطريق لاتفاقيات سياسية لاحقة، مهما أثيرت حولها علامات الاستفهام والشكوك.

وفي الوقت ذاته، يجري تشجيع بيروت بشتى الوسائل على إعادة إحياء ملفاتها العالقة مع دمشق، مثل قضية السجناء، وترسيم الحدود، وأزمة النازحين، والمفقودين، وحتى ودائع المواطنين السوريين في البنوك اللبنانية، وللمرة الأولى منذ مدة طويلة، تبدو واشنطن وكأنها تضع لبنان وسوريا تحت مظلة واحدة، وتسعى جاهدة لتحقيق نوع من التطبيع الوظيفي الذي يرفع الأعباء والتكاليف عن كاهل الجميع، وينهي بشكل قاطع ذريعة إدارة الأزمات بأقل قدر ممكن من الخسائر.

وعلى الجانب اللبناني الإسرائيلي، تتضح معالم معادلة أكثر تعقيدًا وحساسية، فالمطلوب، وفقًا للرؤية الأمريكية، هو تحقيق اختراق داخلي حقيقي، يتجسد في ترجمة قرار الحكومة اللبنانية بحصر السلاح بيد الدولة إلى خطة تنفيذية شاملة يقودها الجيش اللبناني، على أن يواكب ذلك ترتيب أمني محكم على الحدود، وتخفيف إسرائيلي مدروس ومنظم للوجود العسكري.

ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خرج عن صمته المعهود ليقدم صيغة حذرة، تقوم على أساس تقديم خطوات لبنانية ملموسة أولًا، على أن تقابلها خطوات إسرائيلية تدريجية، لكنه لم يقدم وعدًا بانسحاب شامل وكامل من الأراضي المتنازع عليها.

إن منطق التبادلية المشروطة هذا يضع الكرة في الملعب اللبناني ظاهريًا، لكنه في جوهره يعيد طرح السؤال الأزلي الذي لم يُحسم بعد، وهو: أيهما يسبق الآخر، تجفيف البيئة العسكرية لحزب الله شمال نهر الليطاني، أم خفض البصمة الإسرائيلية في الجنوب اللبناني؟ ومن يضمن ألا تتحول هذه التبادلية إلى حلقة مفرغة لا نهاية لها، إذا ما قرر طرف من الأطراف التشدد في مواقفه أو المماطلة في تنفيذ التزاماته؟

يدرك المسؤولون في بيروت تمام الإدراك أن المسألة تتجاوز مجرد شعار سيادي، فتنفيذ قرار الحكومة يعني الخوض في تفاصيل دقيقة وشائكة، مثل: أين يبدأ نزع السلاح وكيف يتم تدريجيًا؟ وما هي الآليات المعتمدة للجرد والتسليم والتخزين والإشراف؟ وما هو موقع الدفاع الإستراتيجي الذي يطرحه حزب الله في هذه المعادلة؟ وهل ستُفتح نافذة لإدماج وظيفي تحت سقف الدولة، أم سيتم اللجوء إلى مقاربة تقوم على النزع والنقل والتحييد؟

إن الجيش اللبناني، الذي طُلب منه إعداد خطة مفصلة، يدرك تمامًا أن النجاح لا يُقاس بمجرد إصدار بلاغ عسكري، بل بمنظومة متكاملة من الضوابط الميدانية والقانونية والسياسية والمالية، وبقدرة حقيقية على ملء الفراغ الأمني على طول الحدود، وبشبكة دعم دولي متواصلة تستمر لسنوات وليس لأشهر معدودة، وهنا تبرز الأهمية القصوى لتجديد ولاية قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، وتثبيت التمويل اللازم للجيش اللبناني.

إن زيارة السيناتورين الأمريكيين، ليندسي غراهام وجين شاهين، إلى بيروت ليست مجرد نزهة برلمانية، بل هي رسالة واضحة تهدف إلى قياس مدى الجدية اللبنانية، وحسابات الدعم الأمريكي، والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه الكونغرس في ربط التمويل بالنتائج الملموسة على أرض الواقع.

وفي موازاة ذلك، لا بد من تثبيت موقف حزب الله من أصل هذا المسار، لأنه عنصر حاسم في إمكانية تقدم الخطة أو تعثرها، فالحزب يصر إصرارًا قاطعًا على أن أي نقاش حول سلاحه لا يمكن فصله عن البيئة التهديدية القائمة، ويرتكز خطابه على ثلاث حجج رئيسية:

  • أولًا، استمرار الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا إلى الخروقات الجوية والبحرية اليومية، مما يجعله يعتبر أن الردع لم يفقد مبرراته وأهميته بعد.
  • ثانيًا، الشكوك العميقة بشأن وجود مشاريع إسرائيلية خفية لإقامة شريط أمني جديد بصيغ اقتصادية أو عسكرية مموهة، يرى فيها محاولة لإعادة إنتاج وقائع احتلالية بوجه جديد.
  • وثالثًا، المستجدات والتطورات المتسارعة في الملف السوري، إذ يلوح الحزب بخطر محتمل مصدره الإدارة السورية الجديدة، وما قد يرافق انتقال السلطة من تغييرات في هندسة الأمن على الحدود الشرقية والشمالية، من إعادة تموضع الأجهزة الأمنية إلى فراغات قد تتسلل منها مجموعات متطرفة أو خلايا عابرة للحدود.

هنا يتذرع حزب الله بأن تسليم السلاح في ظل هذا المشهد القائم هو بمثابة تفكيك لأداة الردع قبل اكتمال ضمانات الدولة، وأن الحوار والإستراتيجية الدفاعية هما الإطار الوحيد المقبول زمانًا وترتيبًا ومضمونًا.

عمليًا، يلمح الحزب إلى استعداده النظري للدخول في نقاش جاد حول وظائف السلاح ومراتبه وتوقيتاته، لكنه يربط ذلك بسلة من الشروط الصعبة، مثل: جدول زمني متدرج، وضمانات أممية ملزمة، وتوازن واضح بين أي خطوة لبنانية وتراجع إسرائيلي موثق، وترتيبات ضابطة على الحدود مع سوريا تكبح المخاطر قبل وقوعها.

وبناءً على ذلك، يعيش الداخل اللبناني اختبارًا مزدوجًا، فهو يواجه اختبار الجدوى واختبار التوقيت في آنٍ معًا، فالحركة المترددة للثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) بين التصعيد والتريث تعكس نقاشًا حقيقيًا وعميقًا في حسابات الشارع ورسائل الضغط المطروحة وحدودها الممكنة.

إن تأجيل المظاهرة التي كانت مقررة لا يعني بالضرورة تبدلًا جذريًا في الموقف من أصل القرار الحكومي، بل هو على الأرجح إعادة لضبط إيقاع التحرك على مواعيد انعقاد جلسة الحكومة وخطة عمل الجيش، وتثبيت لمعادلة لطالما كررها الحزب، ومفادها: لا تسليم للسلاح خارج إطار الحوار والإستراتيجية الدفاعية.

في المقابل، تبدو بعبدا في وضعية من يريد التقاط أنفاس الدولة بين مستلزمات السيادة ومتطلبات الواقعية.

وقد بدا واضحًا أن رئيس الجمهورية، العماد جوزيف عون، يبلغ كل من يلتقيه من المسؤولين أنه لا يوزع وعودًا مجانية، وأنه يستمع باهتمام لما في جعبة باراك من تل أبيب ودمشق، ويضغط بقوة لتأمين مظلة دولية لليونيفيل، ويعمل على تحصين موارد الجيش، ويبحث عن لغة مشتركة مع حزب الله، دون أن يتوهم بشأن سرعة الترجمة على أرض الواقع.

لقد حدد الأمريكيون جدولًا زمنيًا طموحًا للغاية، إذ جعلوا نهاية العام سقفًا زمنيًا لكل شيء تقريبًا، بدءًا من خفض التوتر في قطاع غزة وفتح مسار سياسي للفلسطينيين، مرورًا بتهدئة الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وصولًا إلى ترتيب الملفات العالقة بين دمشق وبيروت، ودفع مسار سلاح حزب الله إلى نقطة اللاعودة.

تفترض هذه السلة المتكاملة قبولًا إسرائيليًا عمليًا بمبادئ كانت تشكل في يوم من الأيام أسس مبادرة بيروت للسلام، أو على الأقل إشارات مطمئنة للعرب بأن الأمن مقابل الأمن لن يُدفن مجددًا تحت ركام الشعارات المتطرفة، إلا أن الشكوك لا تزال قائمة وكبيرة.

يبقى السؤال الأبرز والأهم هو: من يضمن ألا تتبدل حسابات تل أبيب مع أي اهتزاز داخلي؟ ومن يضمن ألا يتجه الحزب، تحت ضغط الوقت وبذرائعه المذكورة آنفًا، إلى تصعيد مضاد يعيد خلط الأوراق من جديد، سواء في الشارع أو على الجبهة أو في الساحة السياسية؟

ومع ذلك، ليس أمام بيروت ترف تحويل القرار الحكومي إلى ورقة للمساومة الداخلية، لأن أي تردد أو تلكؤ سيحول الخطة إلى عنوان خلاف وجدال، مما يزيد من عزلة لبنان ويضعف من موقفه على طاولة الترتيبات الإقليمية والدولية المقبلة، وأي تباطؤ في التنفيذ سيفتح الباب على مصراعيه أمام فراغ أمني واسع النطاق، لن يملأه سوى عالم الاقتصاد الموازي على الحدود.

إن الخيار الرشيد يمر عبر ثلاثة مسارات متزامنة ومتكاملة:

  • أولًا، خطة أمنية متدرجة وقابلة للقياس الكمي، تسندها وحدات منتشرة على نطاق واسع، وقدرة لوجستية عالية، وتمويل مستدام للجيش والقوى الأمنية، وتستكمل بضمانات أممية قوية تحاصر الثغرات المحتملة.
  • ثانيًا، مسار سياسي داخلي يقلل من كلفة المواجهة الصفرية، وذلك عبر حوار جاد وبناء لا يشتري الوقت، بل يرسم نهايات واضحة المعالم لدور السلاح خارج سلطة الدولة، ويقدم حلولًا ومخارج تحفظ ماء وجه جميع الأطراف، مع أخذ هواجس الحزب المعلنة - الاحتلال الإسرائيلي، والشريط الأمني، والوضع على الحدود الشرقية بعد التحولات في الإدارة السورية الجديدة - في الاعتبار، دون تحويلها إلى ذريعة لتعطيل المسار بشكل مفتوح.
  • ثالثًا، تفاوض عنيد وصارم على التبادلية مع إسرائيل، يرفض ابتزاز الخطوة دون مقابل، ويدفع باتجاه التوصل إلى صيغة تتزامن فيها إجراءات ضبط الحدود شمال نهر الليطاني مع خفض ملموس للوجود الإسرائيلي جنوب الخط الأزرق، تحت رقابة دولية واضحة لا لبس فيها.

أما على الخط السوري، فالتبريد مطلوب دون الوقوع في الأوهام الزائفة، فدمشق ستفاوض حتمًا بأوراقها المتاحة، مثل ملف السجناء، والتنسيق الأمني، والاقتصاد العابر للحدود، وملف اللجوء، وعلى لبنان أن يتعامل مع هذه الملفات كوحدة متكاملة، وأن يتبنى خطابًا سياديًا هادئًا يتجنب التهويل والاستجداء.

إن ضبط الحدود ومكافحة التهريب ليسا مجرد خدمة لقرار دولي، بل هما أيضًا استعادة لمالية الدولة وكرامة المناطق التي أرهقها الاقتصاد الخفي، ففي هذا الملف، كما في غيره من الملفات الشائكة، لا تُقاس المكاسب بالشعارات الرنانة، بل بالنتائج اليومية الملموسة، مثل تسيير دورية إضافية هنا، ومعبر حدودي يخضع للضوابط هناك، ومسار إداري يليق بحقوق الناس وواجبات الدولة.

قد يأتي شهر ديسمبر/كانون الأول بزيارات رفيعة المستوى وصور تذكارية ومؤتمرات صحفية مدوية، وقد لا يأتي بشيء سوى بيانات رسمية محسوبة بعناية، إلا أن جوهر المعركة الحقيقي لن يُحسم في الميكروفونات، بل في قدرة لبنان على تحويل قراره إلى خطة عمل واضحة، وخطته إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس، ومؤشراته إلى ثقة دولية متينة تُترجم إلى تمويل مستدام وتمديد لولايات دولية واستقرار راسخ على الأرض.

الطريق أمامه مليئة بالعقبات والمطبات، بدءًا من مزاج نتنياهو المتقلب، مرورًا بحسابات حزب الله وهواجسه المتزايدة، وصولًا إلى خطوط التماس المعقدة في السياسة الداخلية، والاستحقاقات الأممية التي لا تحتمل العبث والإهمال، لكن ما هو مطروح اليوم يتجاوز بكثير مجرد الجدل حول من سيربح الجولة.

إن المطروح على المحك هو ما إذا كان لبنان قادرًا أخيرًا على إعادة تعريف مفهوم أمنه القومي بقرار سيادي فعلي، وأن يتمكن من إدارة انتقال صعب ودقيق من توازن الردع إلى توازن الدولة، دون السقوط في هاوية الانهيار الشامل من جديد، فليس المطلوب أن يصفق أحد لأحد، بل المطلوب هو أن تُدار هذه اللحظة التاريخية بأعلى درجات الحكمة والبرودة السياسية الممكنة.

إن تحويل القرار إلى واقع ملموس لا يعني إطلاقًا كسرًا أو إذلالًا لأي طرف، بل هو تفكيك احترافي لعُقد معقدة تراكمت على مدى عقود طويلة، فإذا نجح لبنان في بناء هذا المسار الصعب، فسيكون حاضرًا بقوة عندما تتشكل خرائط الاستقرار الإقليمي المقبلة، وإن أخفق في ذلك، فسيعاند وحده رياحًا إقليمية عاتية لا ترحم أحدًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة