سياسة ماكرون في أفريقيا- تغيير الأدوات، أم استمرار الهيمنة؟

المؤلف: د. عبد الحفيظ السريتي08.19.2025
سياسة ماكرون في أفريقيا- تغيير الأدوات، أم استمرار الهيمنة؟

منذ أن وطأت أقدام إيمانويل ماكرون قصر الإليزيه في عام 2017، تجلّت تحولات جلية في السياسة الفرنسية إزاء القارة الأفريقية، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة.

وعلى الرغم من الأصوات المتعالية التي تنادي بانسحاب فرنسا من القارة السمراء، لاسيما من معاقلها التقليدية في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، فإن الروابط بين باريس وأفريقيا ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وتحديدًا في الحقبة الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر، عندما بسطت فرنسا سيطرتها على مساحات شاسعة في غرب ووسط القارة.

وحتى بعد حصول الدول الأفريقية على استقلالها، تمسكت فرنسا بنفوذ سياسي واقتصادي وعسكري راسخ، وذلك من خلال شبكات مصالح معقدة ومتشابكة.

يسلط هذا المقال الضوء على سياسة إيمانويل ماكرون تجاه أفريقيا، معتبرًا إياها امتدادًا للسياسات الاستعمارية القديمة، ولكن في حلة جديدة، كما يرصد إخفاقات ماكرون في ترميم صورة فرنسا في القارة السمراء، على الرغم من محاولاته الحثيثة لتقديم خطاب مغاير.

فهل الانسحاب الفرنسي من مناطق نفوذها هو انسحاب حقيقي ونهائي، أم أنه مجرد تغيير في أدوات الهيمنة، بهدف ضمان استمرارها وصون مصالحها؟

سياسة قديمة بشعارات جديدة

على الرغم من النكسات المتتالية التي منيت بها فرنسا في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد والسنغال، والتي تجسدت في إغلاق قواعدها العسكرية وإنهاء وجودها العسكري في دول كانت حتى وقت قريب بمثابة محميات فرنسية، ونقاط ارتكاز للنفوذ الفرنسي في القارة السمراء، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي شهدت فترة حكمه هذا التصدع الكبير، لم يجد وسيلة للتعامل مع هذه الكارثة إلا بوضعها في سياق بناء شراكة وتعاون عسكري فرنسي-أفريقي وفقًا لمعايير جديدة؛ وذلك بهدف احتواء الخسائر التي تتكبدها فرنسا نتيجة التحولات الكبرى التي تشهدها القارة الأفريقية والسيطرة عليها.

فماكرون يدرك تمام الإدراك أن أفريقيا اليوم ليست هي أفريقيا الأمس، وأن الظروف والشروط قد تغيرت بصورة جذرية، وأن التوجهات الجديدة التي تهب على أفريقيا لم تعد تتناسب مع السياسات العتيقة التي تبنتها فرنسا في الحقب الماضية، وخاصة تلك النزعة الاستعمارية التي أرسى دعائمها الجنرال شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، والتي أشرف عليها مستشاره في الشأن الأفريقي جاك فوكار، الذي ظل يرعاها منذ عام 1958 وحتى وفاته في عام 1997.

هذه السياسات الاستعمارية أثارت موجة عارمة من الغضب والاستياء في العديد من الدول الأفريقية، لدى النخب الجديدة التي أصبحت تطالب فرنسا بالاعتذار العلني وجبر الأضرار الناجمة عن سنوات طوال تجرعت فيها الشعوب الأفريقية كل صنوف الإذلال، وعانت من جشع السياسات التي تركت ندوبًا غائرة على أراضي البلدان التي احتلتها فرنسا واستغلت ثرواتها وأفقرت شعوبها.

فالاتفاقيات التي كانت تربط فرنسا بالدول الأفريقية لم تكن مجحفة فحسب، بل كان تنفيذها أكثر إجحافًا واستغلالًا، وقد خلفت وراءها صورًا ومشاهد وممارسات قاسية لن تمحوها السنون من الذاكرة الجمعية لشعوب القارة السمراء.

وماكرون، الذي زار 18 دولة أفريقية منذ وصوله إلى قصر الإليزيه عام 2017، عندما أطلق خطة فرنسا الجديدة في أفريقيا عام 2023، كان يدرك تمامًا حجم التحديات التي تواجهه، خاصةً في ظل المنافسة الشرسة والمتزايدة من قِبل قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا والهند وتركيا.

وبدلًا من صورة فرنسا القوية ذات النفوذ الاستعماري العتيد، سعى ماكرون إلى الترويج لعلاقات مختلفة، تقوم على مبدأ الشراكة الحقيقية والانتقال من منطق تقديم المساعدات إلى منطق الاستثمار وتحقيق المنافع المتبادلة.

وعلى الرغم من أن هذه الخطة حاولت مجاراة الأوضاع الجديدة التي عبرت فيها العديد من الدول الأفريقية عن رغبتها الصريحة في إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها، فإن باريس كانت تدرك أن ساعة إعلان نهاية هذا الفصل قد اقتربت، وأن زمن احتواء الأزمات لم يعد ممكنًا.

لكن ماكرون، الذي بذل جهودًا مضنية للترويج لخطته الجديدة، بدا وكأنه يدعو إلى الفضيلة والرذيلة في آن واحد. فمع إقراره الضمني بضرورة تغيير أسلوب فرنسا في التعامل مع الدول الأفريقية، لم يجد حرجًا في مطالبتها بتقديم الشكر والثناء لفرنسا على ما قدمته من خدمات جليلة لهذه الدول، التي -بحسب تصريحاته- ما كانت لتصل إلى ما هي عليه الآن لولا الانتشار العسكري الفرنسي الذي حال دون وقوعها فريسة للجماعات الإرهابية.

وهي التصريحات التي صبت مزيدًا من الزيت على النار المشتعلة أصلًا في النفوس التي تعج بالاستياء من السياسات المتعالية والنظرة الدونية التي تضمرها فرنسا الاستعمارية.

فباريس تعمل بكل جد واجتهاد ولن تتخلى بسهولة عن حدائقها الخلفية ومصالحها الاستراتيجية. ففي شهر يونيو/حزيران 2024، قامت بإنشاء قيادة فرنسية جديدة لأفريقيا (CPA) تحت قيادة الجنرال باسكال ياني، وتستهدف من وراء ذلك تجاوز الصورة النمطية الاستعمارية السلبية، والتحول نحو بناء صورة جديدة تقوم على التعاون الوثيق والتنسيق المستمر وبناء شراكات أمنية تخدم المصالح المشتركة لكل من فرنسا والدول الأفريقية.

هل تقترب فرنسا من خسارة هيمنتها النقدية بحلول 2027؟

"الاستقلال السياسي يظل منقوصًا ما لم يقترن باستقلال نقدي حقيقي." هذه المقولة لم يقتصر ترديدها على الساسة والناشطين في المجتمع المدني في أفريقيا فحسب، بل امتد ليشمل النخب الحاكمة التي لم تعد تجد تفسيرًا للهيمنة الفرنسية على العملة النقدية لدول غرب أفريقيا إلا باعتباره دليلًا قاطعًا على عدم اكتمال السيادة الوطنية.

والواقع أن النقاش حول هذا الموضوع على مستوى الدول الأفريقية التي ترزح تحت وطأة التحكم النقدي الفرنسي قد بدأ منذ سنوات، ولكن تم تأجيله بسبب تركة الماضي الأليم التي تتطلب اتخاذ قرارات مصيرية، بالإضافة إلى الحاجة الماسة إلى شركاء جدد يساعدون هذه الدول على كسر قيود هذا الارتباط الوثيق، الذي جعل منها مجرد ملحقات تابعة، ومسلوبة الإرادة في التصرف في إمكاناتها ومقدراتها.

وإذا تمكنت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" من إنجاح خارطة الطريق الجديدة لطرح عملة موحدة بحلول عام 2027، فإن الاقتصاد الفرنسي سيتلقى ضربة قاسية وموجعة.

فإطلاق "الإيكو" كعملة موحدة داخل دول غرب أفريقيا سينهي حقبة طويلة من السيطرة النقدية الفرنسية في مجالها الحيوي وحدائقها الخلفية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية البائدة.

ولا يمكننا أن نغفل حقيقة أن الفرنك الأفريقي، الذي ظل يرزح تحت رحمة البنك المركزي الفرنسي طوال عقود مضت، قد شكل ولا يزال يشكل رافعة أساسية لتكريس التبعية وإدامة تحكم فرنسا في المخزون النقدي لدول غرب أفريقيا من العملات الصعبة، وفي مبادلاتها التجارية الخارجية.

فالفرنك الأفريقي قد ولد مع الحقبة الاستعمارية، وتحديدًا في عام 1945، ليصبح أداة قوية وفعالة في التحكم النقدي والاقتصادي لفرنسا بمستعمراتها السابقة.

والأمر الغريب والمثير للدهشة أن المقابل بالنسبة للدول الأفريقية لم يكن شيئًا يُذكر، فكل ما قدمته فرنسا هو الحفاظ على سعر ثابت للفرنك الأفريقي، مع فرض شروط مجحفة وغير عادلة، تقضي بإيداع نسبة 50% من احتياطات هذه الدول من العملات الأجنبية في بنكها المركزي.

وهو الأمر الذي أثار ردود فعل قوية وغاضبة، حيث اعتبرت هذه الدول استقلالها السياسي منقوصًا ما لم تتحرر من قبضة الفرنك الأفريقي ومن الإملاءات الفرنسية النقدية التي ترهن مستقبل هذه الدول، وتعطل انطلاقها نحو التنمية والتحرر.

الفرانكفونية في تراجع مستمر

يشهد النفوذ الفرنسي الثقافي واللغوي تراجعًا ملحوظًا، وذلك بعد أن أعلنت كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر انسحابها الرسمي من منظمة الفرانكفونية، وهي المنظمة الدولية التي يوجد مقرها الرئيسي في باريس، والتي تعمل جاهدة على تعزيز حضور اللغة الفرنسية في مختلف أنحاء العالم، ودعم التنوع الثقافي واللغوي، ونشر السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتشجيع التعليم.

وهي الشعارات البراقة التي لم تجد لها صدى حقيقيًا في واقع الدول الأفريقية التي بقيت تعيش في عصور مضت، وكأن عقارب الزمن قد توقفت عند هذه القارة التي نالت قسطًا وافرًا من العذاب والإقصاء والتهميش.

فالتوجه العام في هذه الدول بدأ يعيد النظر بشكل جدي في الاعتماد على اللغة الفرنسية كلغة معتمدة في التدريس، خاصة في ظل الحصيلة الضعيفة التي أبقت التعليم متخلفًا وبعيدًا عن التطورات العلمية والمعرفية الحديثة، التي تعتبر اللغة حاملًا أساسيًا لها.

فدولة رواندا على سبيل المثال، انتقلت من الاعتماد على اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية، والتحول ذاته جارٍ على قدم وساق في السنغال، حيث دافع الرئيس الحالي باسيرو فاي عن اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية بديلة عن اللغة الفرنسية.

وتتفق الأوساط الأكاديمية في السنغال، على أن القرارات الحاسمة التي اتخذتها العديد من الدول الأفريقية مؤخرًا، ستؤدي قريبًا إلى إقصاء اللغة الفرنسية من القارة السمراء بشكل كامل.

أفريقيا تريد أفعالا لا أقوالا

على الرغم من كل الخطب الرنانة والخطط الجديدة التي حاول ماكرون الترويج لها من أجل إعادة بناء صورة جديدة ومختلفة عن فرنسا داخل مستعمراتها القديمة، فقد ظلت مجرد أقوال جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، وتذروها الرياح.

فما تحتاجه دول غرب أفريقيا بشكل حقيقي هو التحرر والاستقلال الكامل من الهيمنة الفرنسية بكل أشكالها وصورها، والاعتراف الصريح بالانتهاكات والجرائم التي ارتكبت في حق شعوبها على مر التاريخ، والتي ساهمت بشكل كبير في تأخير مشاريع التنمية وعرقلة مسيرتها.

فالإقرار الصادق بالماضي وآلامه ومعاناته يتطلب من باريس تقديم اعتذار رسمي وعلني، وتقديم تعويضات عادلة ومنصفة عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بدول غرب أفريقيا. فالرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، قال قبل رحيله في نهاية شهر سبتمبر/أيلول من عام 2019: "لا تنسوا أبدًا أن جزءًا كبيرًا من الأموال الطائلة التي بحوزتنا، مصدره الأساسي هو استغلالنا لأفريقيا، والمسؤولية والحس السليم يمليان علينا أن نعيد ما أخذناه، وهذا على الأقل يمكن أن يجنبنا الكثير من المصاعب والاضطرابات". وبدون ذلك ستظل فرنسا تحمل أعباءً ثقيلة تنوء بحملها الجبال.

على سبيل الختم

إن إعلان فرنسا "الانسحاب" المعلن من أفريقيا في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، على الرغم من كونه ظاهرة حقيقية وملموسة على المستوى العسكري الظاهري، فإنه يمثل في الواقع إعادة تموضع إستراتيجي للقوة الفرنسية في القارة السمراء، من خلال استبدال الأدوات التقليدية للهيمنة العسكرية بأدوات أكثر نعومة ومرونة، مثل الاقتصاد، والدبلوماسية، والثقافة. ففرنسا تسعى جاهدة إلى الحفاظ على مصالحها الحيوية والإستراتيجية في المنطقة، مع تخفيض التكاليف والأعباء الناجمة عن الوجود المباشر.

في نهاية المطاف، يظل نجاح هذه السياسة الجديدة مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بقدرة فرنسا على تجاوز الإرث التاريخي الثقيل من التبعية والاستعمار البغيض، وبناء علاقات متوازنة وقائمة على الاحترام المتبادل، بما يحترم مصالح الشعوب الأفريقية ويلبي تطلعاتها المشروعة نحو تحقيق السيادة الكاملة والتنمية المستدامة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة