المثقف العربي- ضرورة استشراف المستقبل في عالم مضطرب

المؤلف: حسن أوريد09.10.2025
المثقف العربي- ضرورة استشراف المستقبل في عالم مضطرب

لقد تجلت، بما لا يدع مجالاً للشك، الأهمية القصوى لدور المثقف في ضوء التحولات العالمية العميقة التي شهدها العالم خلال السنوات الخمس الماضية. فمنذ تفشي جائحة كورونا التي أرعبت العالم، مروراً بعودة شبح الحرب الباردة المخيف، وتصاعد وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية، وصولاً إلى انهيار النموذج الليبرالي، والحرب المأساوية على غزة، برزت الحاجة الماسة إلى صوت العقل والحكمة.

وفي عالمنا العربي، تزداد هذه الحاجة إلحاحاً وتأكيداً. فالسiasيون والأمنيون، الذين كانوا بالأمس القريب يسخرون من دور المثقف، باتوا اليوم يعترفون، وعلى استحياء، بضرورة وجوده. إن نظرتهم قاصرة على اللحظة الراهنة، ولا تمتد إلى آفاق المستقبل البعيد. إنهم يخضعون لضغوط هائلة، سواء كانت نابعة من طبيعة مسؤولياتهم الجسام، أو التزاماتهم الدولية والإقليمية المرهقة. كما أنهم يتحركون من داخل هياكل وبنى قد لا تتلاقى توجهاتها وأساليبها المتضاربة.

ففي الأوقات الهادئة، لا تحتاج السفينة إلى منظار أو بوصلة لتحديد مسارها. أما في الأجواء العاصفة والملبدة بالغيوم، يصبح وجود المنظار والمسبار والبوصلة أمراً لا غنى عنه.

لقد كان المثقف، على مدى قرنين من الزمان، في صميم الفعل العام، يقوم بدور الشارح والمؤثر والملهم. فمنذ سان سيمون، الذي منح العلماء دوراً محورياً في تغيير العالم، وصاغ مصطلح "Intellectuel" للتعبير عنهم، اقتبس أوغست كونت منه أفكاره، وأوكل إلى المثقف ثلاثة أدوار متلازمة. هذه الأدوار، التي عبرت عنها اللغة الفرنسية ببلاغة مسجوعة، هي تفسير العالم (Savoir)، وتغييره (Pouvoir)، والتنبؤ بما قد يؤول إليه (Prévoir)، وذلك باستخدام أدوات العلم والقراءة الموضوعية. ولذلك، ابتكر كونت علم الاجتماع (سوسيولوجيا)، بينما أوكل ماركس للفيلسوف مهمة أسمى من مجرد تفسير العالم، وهي تغييره جذرياً.

لقد كان المثقف في الغرب جزءاً لا يتجزأ من الصراعات السياسية المحتدمة، وقد تأثرنا في عالمنا العربي بهذا التيار الجارف. انخرط المثقفون في العمل السياسي، وكانوا وقوداً له، وصاغوا الروايات، وتصدوا لشرحها، وانضموا إلى الأحزاب، وانغمسوا في خضم المعارك السياسية.

ولكن التغيير الذي طال المثقف في الغرب، في أعقاب الموجة النيوليبرالية العاتية، لم يترك عالمنا بمنأى عنه. فقد تضرر المثقف من عوامل تقويض وتعرية متعددة، بما في ذلك ظهور منافسين له، مثل الخبير (أو تقني المعرفة)، الذي لا يطرح الأسئلة، بل يحمل الأجوبة الجاهزة. إضافة إلى ذلك، ظهر مثقف التلفزيون، الذي يحمل معرفة سطحية، وغالباً ما يكون مرتبطاً بالسلطة أو رأس المال، لأن التلفزيون لم يكن منبراً للأصوات النقدية. ثم انضم إلى هؤلاء الناشط، المنخرط في حركة ذات أجندة محددة، والداعية الذي ينطلق من أرضية دينية وحقائق مطلقة، ورؤية مانوية للعالم (إما مع أو ضد، إما أبيض أو أسود). وحتى الروايات الكبرى التي كان يسكنها المثقف وتسكنه، اهتزت وتصدعت، مثل الاشتراكية أو القومية العربية.

في العالم العربي، غالباً ما يكون الفعل السياسي شأناً مركباً أمنياً أوليغارشياً، يشرف عليه رجال الأمن، مع أذرع في المجتمع المدني. أما الأحزاب والنقابات والمثقفون فقد تراجعوا وتواروا عن الأنظار، ليحل محلهم فاعل آخر هو الشارع، الذي يمكن أن يتجه إلى أي مكان.

لقد دار نقاش واسع في عالمنا حول نوعية المثقف الذي تحتاجه مجتمعاتنا. هل هو المثقف الخبير الذي يقدم خبرته ومعرفته المتخصصة (كما كان ينادي به فوكو في فرنسا)، أم المثقف العضوي المنخرط في النضال (كما كان ينادي به غرامشي)، أم المثقف الملتزم (كما كان يرى سارتر)، أم المثقف النقدي (كما تجلى في مقال زولا الشهير "أتهم")؟ ولكن المثقف، شأنه شأن الشاعر، هو ابن بيئته، والتحديات التي يواجهها مجتمعه هي التي تحدد وظيفته وتوجهه.

لقد وجد المثقف في الغرب وفي مجتمعاتنا نفسه متجاوزاً، مع ظهور الصحفي، ثم الداعية. وحتى هؤلاء أصبحوا متجاوزين، وظهر المؤثر الذي يستمد قوته من عدد المتابعين، وليس من قدرته على الإقناع والاستشراف.

ويبدو لي أنه لا مناص من العودة إلى الخطاطة التي رسمها أوغست كونت للعالم أو المثقف، وهي أن يمتلك أدوات فهم العالم، وأن يكون منخرطاً في شؤون مجتمعه، وأن يضطلع بمهمة الاستشراف والقدرة على التنبؤ.

وبعبارة أكثر صراحة، لا بد للمجتمعات من مُتنبئ، شخص يمتلك القدرة على رؤية ما وراء اللحظة الراهنة، وما هو أبعد من مرمى البصر. والرؤية، كما يقال، هي القدرة على رؤية الأشياء غير المرئية. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال الابتعاد عن الأحداث والأشياء والأشخاص، والوقوف على مسافة كافية لرؤية الظواهر.

والغريب في الأمر أن هذه القدرة على التنبؤ هي ما عبر عنه شاعر قديم، حين تحدث عن حاجة أصحاب القوافل إلى السَّراة، وهم الذين يقرؤون النجوم أثناء السُّرى (السير ليلاً).

وأحب دائماً أن أستشهد بهذا البيت من الشعر، للدلالة على مهمة المثقف:

"لا يَصلُح الناس فوضى، لا سَراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا"

إننا نخبط في ليل دامس الظلام، وسط عواصف عالمية في بدايتها، وضعت حداً للأحادية القطبية، وتهدد الهيمنة الغربية ونظرتها للعالم. هذه العواصف ستزعزع عالمنا، وتهز أركانه. كما أن الأرض تهتز بنا من خلال قضايا الهويات والطائفية. وتندفع جموع الشباب إلى الحياة، ولا تجد آفاقاً من عمل وحياة كريمة. وبدلاً من أن نكون فاعلين، نصبح مجرد موضوعات.

وبات الحديث يدور عن "شرق أوسط جديد" في غياب المعنيين، ويمكن بيسر أن نتوقع تأثيره على شمال أفريقيا، وأن يكون مدخل هذا العالم الموعود هو "حل القضية الفلسطينية"… أي القضاء عليها، مما سيفتح أبواب جهنم على هذا العالم الذي هو ملتقى القارات والحضارات. وإذا اشتعلت النيران فيه، فلن يسلم بقية العالم من لهيبها.

ولذلك، يضطلع المثقف بدور حيوي في مجتمعاتنا، كي يقوم بدور الربيئة: من يحرس القرية، ويستشرف الأخطار المحدقة بها. ليس مطلوباً منه أن يفسر العالم، لأن الذكاء الاصطناعي اليوم يمكن أن يقوم بذلك على نحو أفضل من الذكاء الإنساني. ولكن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى ما يميز الإنسان، وهو الحدس.

الحدس ليس مجرد نزوة عابرة، بل هو الجانب الظاهر لعمق غير مرئي من المعرفة المتراكمة، والقدرة التحليلية الباطنية. ففي الغرب، استشرف دوستويفسكي مخاطر الانزلاق الشمولي الذي كان سيقضي على الروح السلافية، ولم يكذب التاريخ نبوءته. وقرأ نيتشه المستقبل، وتنبأ بالزيغ الذي قد يصيب الإنسان الأسمى. ونحن نعرف تتمة القصة.

وربما ما يشفع للمثقف في مهمة التنبؤ، هو أنه يجوز له ما لا يجوز لغيره، ألا وهو الحق في الخطأ. لا ضير إن أخطأ، لأن خطأه (أو تحذيره الافتراضي) قد يجنب مجتمعه أخطاراً حقيقية.

ومما لا شك فيه أن العالم مقبل على تغييرات جوهرية، ونحن أحوج ما نكون إلى من يتنبأ، وأن يفعل ذلك انطلاقاً من حرصه الشديد على عالمه.

ولا أجد خاتمة أفضل لهذا المقال، من تلك التي قدمها لنا أبو العلاء المعري، حين قال:

"وأعجبُ مني كيف أخطئ دائما على أني من أعرفِ الناس بالناس"

فالمثقف لا يخطئ عن جهل، بل عن معرفة، وخطؤه هو تحذير يقي مجتمعه من أخطار جسيمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة