إعادة صياغة العلاقات الروسية السورية- مصالح جديدة وتحديات مشتركة

تشهد العلاقات الروسية السورية تحولات جوهرية، حيث تجسد ذلك في الزيارة الرسمية رفيعة المستوى التي قام بها وفد روسي إلى دمشق في شهر سبتمبر الحالي، بالإضافة إلى دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره السوري أحمد الشرع لحضور القمة العربية الروسية المرتقبة في موسكو الشهر القادم.
في عالم السياسة، لا يوجد عداوات أبدية أو صداقات سرمدية، وهذا التفاعل المستجد بين خصوم الأمس يبرهن على أن منطق المصالح هو الفيصل في نهاية المطاف.
لقد ساهمت الدبلوماسية البراغماتية التي انتهجها الشرع في تعامله مع روسيا منذ توليه مقاليد الحكم في إرساء قاعدة متينة للحوار والتفاهم مع موسكو. وبالمثل، لم تتردد روسيا في مد يدها إلى دمشق منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، وأرسلت إشارات واضحة تدل على رغبتها الأكيدة في الحفاظ على نفوذها ومصالحها في سوريا.
على الرغم من أن الروابط الاستراتيجية المتينة التي تمتد لعقود طويلة تفسر جزءا من حرص دمشق وموسكو على تعزيز هذه العلاقات، إلا أن هناك العديد من الدوافع والمحركات المتنوعة التي تقف وراء هذا التقارب.
فسوريا، من وجهة نظر بوتين، لا تزال تمثل أهمية قصوى للحفاظ على الوجود الروسي الفاعل في معادلة توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط، حتى وإن كان حاكمها الجديد يعتبر خصما بالأمس. كما أنها لا تزال تحتضن قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية على الساحل السوري، وهي منطقة ذات غالبية علوية، تشهد نشاطا ملحوظا لبقايا النظام السابق.
ويبدو أن الشرع يتعامل مع الوجود الروسي في هذه المنطقة بحذر شديد، ويسعى جاهدا للحيلولة دون تحول هذا الوجود إلى مصدر تهديد جديد لاستقرار الحكم الجديد، خاصة وأن أحداث مارس الماضي كشفت أن نشاط بقايا النظام السابق في المنطقة قد يتسبب في شرخ أمني وسياسي عميق بالنسبة للشرع.
إضافة إلى ذلك، يمتلك الشرع أسبابا أخرى تدفعه إلى تبني خطاب ودي تجاه روسيا، فالعلاقة معها، من منظوره، تساعد دمشق في تحقيق التوازن المطلوب في مواجهة المخاطر الجسيمة الناجمة عن التحديات التي تفرضها إسرائيل على سوريا، وكذلك حالة الغموض التي تكتنف مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب.
ويبدو أن الدور الذي لعبته روسيا في إدارة التدخل الإسرائيلي في سوريا خلال فترة الحرب، يمثل حافزا للشرع للتفكير مليا في المزايا التي قد تنجم عن إقامة علاقة جيدة معها في هذه المرحلة.
ومن اللافت للنظر أن هذا الاهتمام السوري بروسيا يتلاقى مع الضغوط التي تمارسها إسرائيل على الولايات المتحدة للسماح لموسكو بالإبقاء على وجودها العسكري في سوريا، وذلك بهدف حماية مصالحها الأمنية وتقويض الطموحات التركية التي تعتبرها تل أبيب تهديدا استراتيجيا لها.
ومع ذلك، فإن هذا الالتقاء في المصالح المتبادلة بين موسكو ودمشق لا يعني بالضرورة أن العلاقة الجديدة ستكون مماثلة للتحالف الوطيد الذي جمعهما في عهد آل الأسد، كما أن العقبات التي تواجه هذه العلاقة المستجدة لا تزال كثيرة.
إن بناء علاقة منفعة متبادلة بين الطرفين يتوقف على عدة عوامل أساسية، وفي مقدمتها أن تحقق هذه العلاقة المصالح الاستراتيجية المشتركة، وأن تعالج بشكل فعال العقبات الجوهرية التي تعترض طريقها، مثل مستقبل الوجود العسكري الروسي، ومصير بشار الأسد وكبار قادة نظامه المتواجدين في روسيا، والضغوط الخارجية التي تواجه دمشق في تحديد علاقاتها الخارجية بشكل عام.
تمثل قاعدتا حميميم وطرطوس أهمية استراتيجية قصوى بالنسبة لروسيا، حيث توفران لها منفذا حيويا إلى البحر الأبيض المتوسط، وتدعمان العمليات اللوجستية الروسية في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط.
لكن دمشق ستسعى جاهدة إلى إبرام اتفاقيات جديدة بشأن استمرار هذه القواعد لفترات زمنية محددة بدلا من الاتفاقيات طويلة الأمد التي تم توقيعها في السابق، بالإضافة إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من المنافع السياسية والاقتصادية من موسكو مقابل ذلك.
وعلى الرغم من أن ملف بشار الأسد وقادة نظامه المتواجدين في روسيا لا يمثل في الوقت الراهن عقبة كبيرة أمام الدبلوماسية الجديدة بين موسكو ودمشق، إلا أن هذا الملف سيظل يشكل ضغطا مستمرا على هذه العلاقة.
ومع ذلك، يمكن لموسكو أن تظهر قدرا أكبر من حسن النوايا تجاه دمشق من خلال إبداء استعدادها للتعاون معها، بما في ذلك دراسة إمكانية ترحيل هؤلاء الأشخاص إلى سوريا لمحاكمتهم على جرائم الحرب التي ارتكبوها في الماضي.
علاوة على ذلك، يشكل الموقف الغربي، وخاصة الأوروبي، عقبة إضافية أمام العلاقات الروسية السورية، حيث تبدي دول أوروبية رغبة في دفع الإدارة السورية إلى إنهاء الوجود العسكري الروسي، معتبرة أن القواعد الروسية تعيق اندماج سوريا في النظام الدولي الجديد.
في المقابل، لم تتخذ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب موقفا حازما ضد استمرار هذه القواعد، مما يمنح دمشق هامشا من المرونة في التعامل مع موسكو. ومع ذلك، يبدو أن واشنطن تركز حاليا على منع إيران من استعادة نفوذها في سوريا، مما يقلل من الضغط المباشر على الشرع بشأن العلاقات مع روسيا.
تتجلى المصالح الدولية المتضاربة في سوريا كعنصر ضاغط إضافي على العلاقات الروسية السورية. يتبنى الشرع سياسة خارجية متوازنة تسعى للتوفيق بين علاقاتها مع روسيا، والغرب، وتركيا، والدول العربية.
وهذه السياسة تجعل العلاقات مع روسيا مشروطة بالبدائل الاقتصادية والسياسية التي يقدمها الشركاء الآخرون. وعلى الرغم من هذه التحديات، تظل هناك دوافع قوية تدفع موسكو ودمشق نحو التفاهم والتعاون.
بالنسبة لأحمد الشرع، تمثل العلاقة مع روسيا ضرورة استراتيجية لتجنب أي دور محتمل لموسكو في زعزعة استقرار الحكم الجديد، والاستفادة من الإرث الطويل للعلاقات الثنائية في مواجهة التحديات الخارجية.
ومن جانبها، تحتاج روسيا إلى الحفاظ على وجودها في سوريا للحفاظ على نفوذها الإقليمي وتأمين مصالحها الجيوسياسية.
وتشكل هذه المصالح المتبادلة أساسا متينا لإعادة صياغة العلاقات على أسس جديدة، تراعي طموحات دمشق في بناء سياسة خارجية متعددة الاتجاهات، وتضمن لروسيا الحفاظ على موطئ قدم راسخ في منطقة الشرق الأوسط.