الأخبار الكاذبة- جذور عميقة وأوهام معاصرة

جذور ضاربة في القدم
ألاعيب التوجيه
مغالطات شائعة
تتصاعد حدة الجدل حول الأخبار الزائفة في أروقة الإعلام الأمريكي المعاصر، إذ يلقي الحزب الديمقراطي بمسؤولية جزئية على عاتق هذه الأخبار في هزيمتهم الانتخابية أمام دونالد ترامب. ومن بين هذه الافتراءات حكاية مسؤول في حملة هيلاري كلينتون تردد على مطعم بيتزا في العاصمة، لكن فكرة شيطانية تبلورت في ذهن أحدهم، مدعياً وجود أنفاق سرية تحت المطعم يستخدمها الديمقراطيون - وعلى رأسهم هيلاري! - في تجارة الأطفال.
وقد بلغت هذه الكذبة مبلغاً عظيماً من الانتشار والتداول، حتى صدقها أحد المواطنين المخدوعين، فسافر مسلحاً ببندقية إلى ذلك المطعم، بنية تحرير الأطفال المزعوم اختطافهم، وأطلق النار عشوائياً قبل أن يتم القبض عليه، ليظهر بجلاء زيف الادعاء ومدى تأثيره المدمر على من يصدقه.
ولم تقتصر الأكاذيب على هذه الواقعة المؤسفة، بل امتدت لتشمل تصريحات ترامب نفسه، الذي برر تفوق هيلاري عليه بما يقارب ثلاثة ملايين صوت بادعاء أن العديد من هذه الأصوات مزورة وغير قانونية، وهو زعم يستحيل التحقق منه عملياً ولا يوجد ما يدعمه من أدلة. بلتمادى ترامب في إطلاق ادعاءات عارية من الصحة، لا أساس لها في الواقع، ما دفع البعض إلى القول بأننا نعيش في عصر "ما بعد الحقيقة"، حيث تتلاشى الحدود بين الصدق والكذب.
يرى الإعلام الليبرالي التقليدي في انتشار الأخبار الكاذبة مصيبة كبرى، ويصورها على أنها ابتكار حديث للإعلام اليميني في عصر تويتر وفيسبوك، ويطالب هذه المنصات الرقمية باستحداث آليات فعالة للتحذير من هذه الأخبار المضللة. إلا أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، وسأحاول تبيانها هنا.
أسس معرفية راسخة
إن ثنائية الصدق والكذب ليست وليدة العصر الحديث، فمسيرة الإنسان التطورية الطويلة ما كانت لتتحقق لولا سعيه الدؤوب إلى التمييز بين الأقوال الصادقة ونبذ الأقوال الكاذبة. ويكفي أن نعلم أن الإنسان الذي تغلب عليه السذاجة وانقاد للأكاذيب، سرعان ما سيلحقه الأذى جراء تصديقه لهذه الأكاذيب، سواء كان طفلاً أم شيخاً.
هناك الكثير من الاكاذيب، خصوصا ما يدور على لسان ترمب نفسه حيث يعلل زيادة هيلاري عليه بقرابة ثلاثة ملايين صوت بكون كثير من هذه الأصوات غير قانونية، وهو أمر متعذر عمليا، ولا دليل عليه أصلا. لا بل تمادى ترمب فأطلق دعاوى مرسلة لا يُعرف لها سندٌ في الواقع، حتى ذهب البعض إلى أننا نعيش في عصر "ما بعد الحقيقة" |
فمن قفز في بئر ظناً منه أنها غير عميقة، كانت النتيجة المحتومة هي الغرق، ومن اعتقد أن وضع رأسه في فم تمساح جائع سيشفيه من الصداع، فقد صداعه ورأسه معاً! وإذا كان انتباه العقل إلى الصدق هو أساس من أسس عقلانية الإنسان وإدراكه لصلة الأقوال بالواقع، فإن محبة الصدق أصبحت بمثابة غريزة حب الطعام الطيب، وكراهية الكذب أصبحت كغريزة النفور من الطعام الفاسد.
وفي ظل هذا التأصيل الغريزي، لا عجب أن يُعد "الكذاب" وصفاً ذميمًا في جميع الأخلاقيات البشرية، سواء لدى الملحد أو المتدين. ولا غرابة أن يكون فلاسفة الحداثة الأوائل مدافعين شرسين عن غاية الصدق، ساعين إلى إخضاع جميع المعارف لشرط الصدق الذي تمليه العلوم الطبيعية.
ويتحقق تحري الصدق في فهم العالم واجتناب الكذب بطريقتين: إما أن يكون كذباً بالاقتراف، كأن نقول إن "الصين اليوم أصغر من اليابان من حيث عدد السكان"، وهو كذب صريح وواضح، وإما أن يكون كذباً بالحذف والتجاهل، كقول القائل "إن المعدة هي أصل كل داء"، وهو تعميم مخل يتجاهل الالتهابات والأمراض المعدية والسرطانات التي تصيب الجسد دون أن تكون لها علاقة بالمعدة تحديداً، وبالتالي يكون القول كاذباً بسبب تعميمه الفاسد.
وهكذا، انكب المناطقة على البحث في صدق الأفكار، والأخلاقيون في صدق القيم، والمؤرخون في صدق الحوادث، ولا يزال عمل هؤلاء الفلاسفة والعلماء مستمراً دون انقطاع، مما أدى إلى تراكم الحقائق الثابتة والتقنيات الناجعة.
وعلى النقيض من التأصيل الغريزي والأخلاقي والمعرفي للصدق، ظهر من يشكك في وجود الصدق أصلاً. فالحقيقة هي ما تمليه إرادة القوة عند فريدريك نيتشه، أو هي أداة للهيمنة الذكورية عند ساندرا هاردينغ، وهي ما يؤطره الإعلام في عقل الجماهير عند وزير الإعلام النازي جوزيف غوبلز.
وقد تحول هذا المنحى الخطير إلى مذهب لدى "ما بعد الحداثة"، التي ترى أن الحقيقة والصدق مجرد اختلاقات اجتماعية، وهو أمر يلقى استحساناً كبيراً لدى أصحاب السلطة والنفوذ. فإذا كان الكهنة في الماضي قادرين على إقناع الأقنان بالخنوع والكدح لصالح الطبقة المالكة طمعاً في خلاص روحاني، فإن عصر الطباعة والمذياع والقنوات التلفزيونية قد غير قواعد اللعبة. فأصبح توجيه العقول أوسع نطاقاً وأكثر تدفقاً، ومن امتلك زمام ما تسمعه الآذان وما تراه الأبصار، بات عالماً بما تضمره النفوس.
ألاعيب التوجيه الإعلامي
وهكذا، أصبح التوجيه الإعلامي ركناً أساسياً من أركان الدولة الحديثة. وأصبح بقاء السلطات الحاكمة - سواء كانت شيوعية أو رأسمالية، ملكية أو جمهورية - مرهوناً بالقدرة على توجيه الجماهير في الفضاء المعلوماتي. فمن ملك التوجيه المعلوماتي ملك القلوب، ومن ملك القلوب خضعت له الأجساد بثرواتها وقواتها.
لا عجب إذن أن الكذب قد تحول إلى حرفة حكومية لا تستقيم الدولة بدونها، فالشيوعيون يكذبون نصرة لمذهبهم، والرأسماليون يختلقون الأكاذيب لدحض حجج خصومهم، ولم تعد الحقيقة محصورة إلا في أيدي خبراء مكبوتين أو في مكاتب المخابرات وصناعة القرار.
لا عجب أن الكذب صار حِرفةً حكومية لا تقوم الدولة بغيره، فالشيوعيون يكذبون لصالح مذهبهم، وكذا الرأسماليون يختلقون من الأكاذيب ما يفلُّ أكاذيب خصومهم، ووحدها الحقيقة صارت منحصرةً في خبراء مكبوتين |
لقد كانت ألاعيب الكذب العمومي مجدية لأصحابها حتى حين، لكن حبل الكذب قصير ولا يلبث أن تقطعه اختبارات الغرائز والأخلاقيات والمعارف. فلا يمكن إقناع الجائع بأنه شبعان، ولا المعذب بأنه يُعامل معاملة حسنة، ولا القول بأن منسوب مياه البحر ينخفض بينما الجزر تغرق؛ فالغرائز والأخلاق والمعارف تقف لهم بالمرصاد.
وهكذا، ظهرت الثورة المعلوماتية في أواخر القرن العشرين، وبدأت المعلومات والصور والأفلام تتدفق بغزارة، وزادت مواقع التواصل الاجتماعي من بثها، فكيف للحكومات أن تسيطر على كل هذا التدفق الهائل؟ لم يعد الأمر بالسهولة التي كانت عليها الأمور في السابق، حين كان يكفي السيطرة على قناة تلفزيونية واحدة وإذاعة مفردة وجريدة مركزية، في عصر بات فيه بإمكان كل مواطن أن يؤسس واحدة من كل ذلك بنفسه.
وهكذا، تنبه خصوم الطبقة الحاكمة الأمريكية من الأصوليين والقوميين والعنصريين إلى أنه يجوز قلب سحر كذابي الليبرالية الجديدة عليهم، بمن فيهم أصحاب البنوك والإعلاميون وأقطاب الترفيه ودعاة العولمة، لإعادة الأمور إلى نصابها لصالح الدولة القومية ونخبوية السلطة وأحادية الثقافة.
فأخذ بعض هؤلاء اليمينيين في بث الأكاذيب التي أقنعت بعض العامة بالتحول عن الإعلام الأمريكي الليبرالي إلى ما هو أكذب منه. ولكن يا للعجب، فالكذب المستجد الذي أسهم في خسارة هيلاري ما هو إلا حفرة عميقة حفرتها النخبة الليبرالية في أمريكا منذ زمن بعيد، فما لبثت أن سقطت فيها.
مسلمات زائفة
لا يمكن إيجاد حل لمشكلة الأخبار الكاذبة المتفشية في مواقع التواصل الاجتماعي دون معالجة جذرية لمشكلة الكذب الأكبر الكامن في المسلمات الثقافية العامة في الغرب. وأخص بالذكر المغالطات التالية، التي يمهد تفكيكها لاستئصال جذور الكذب الأكبر، حتى تتلاشى فروع الكذب الأصغر المتطفلة على تلك الجذور:
1- الرأسمالية الفردية هي الأسلوب الأمثل لتحقيق التنمية: تقوم هذه المغالطة على فكرة إطلاق العنان لأصحاب رؤوس الأموال في المشاريع والربح دون أية قيود. ولكن هذا المذهب لا يستقيم من الناحية الهندسية البسيطة، فالرأسمال الفردي لا يمكن أن يزدهر دون شبكات المواصلات والاتصالات المتطورة، فضلاً عن العمالة المنظمة والخاضعة للقانون والسليمة صحياً، والمتعلمة والقادرة على الابتكار التكنولوجي والانضباط الإداري الضروري للإنتاج.
ومن المعلوم أن المجتمع والدولة هما اللذان يوفران كل هذه البنى التحتية الضخمة للرأسمالي، وبغير الرأسمالية الاجتماعية لا يمكن لرأس المال أن ينجح في تطوير المشاريع أو تسويقها، فضلاً عن توفير الأمن الشخصي لصاحب رأس المال ومشروعه.
ولذلك، توجب الرأسمالية الاجتماعية ضبط عملية التربح بما يخدم مصالح المجتمع وبالمساهمة الضريبية في البنى التحتية التي يستغلها الرأسمالي. وليجرب الرأسمالي نقل رأسماله إلى مناطق نائية في العالم الثالث تفتقر إلى البنى التحتية، فهل سيحصل على نفس الأرباح التي كان يجنيها في السابق؟
2- الديمقراطية الشكلية هي النظام السياسي الأكفأ لممارسة السلطة: تفترض هذه المغالطة أن الديمقراطية النيابية هي ذروة التقدم في الإدارة السياسية. ولكن حكم الشعب في معظم الديمقراطيات معلق على أداء الممثلين في البرلمان، وهؤلاء بدورهم يقنعون الناخبين ببرامجهم من خلال وسائل الإعلام، وكلا الأمرين مقيد بدستور وضعته نخبة سابقة تحدد الدوائر الانتخابية وآليات تداول السلطة ونظام التقاضي.
فمن أمسك بزمام التوجيه الإعلامي والتمثيل النيابي للناخبين واستمر في الدوران في فلك الفئة التي كتبت الدستور، صار قادراً على حكم الشعب باسم الشعب ودون استئذان الشعب، والتحكم في الثروة والسلطة مجتمعة، وهذا هو حال الديمقراطية الجوفاء.
من الواضح أن أية سيادة شعبية حقيقية تتطلب مراجعة مستمرة للعقد الدستوري، وتفكيكاً دائماً لمحاولات تحجر الطبقة النيابية، ومراقبة دؤوبة للتلاعب الإعلامي. أو بمعنى آخر، لا ديمقراطية إلا بالسيادة الشعبية الدوارة التي تتماشى مع المصالح المتجددة لأفراد الشعب.
3- المتع الحسية والشهوانية والتباهي والثروة التي تتحقق بالمال هي الغاية القصوى لحياة الإنسان: هذه المغالطة هي تفرع عن المغالطتين السابقتين، وهي موجهة للجمهور الذي يندفع للتسابق في جمع المزيد من الأموال كمعيار للسعادة. ولا مجال لإنكار الدور الفطري لإشباع الملذات والمتع البشرية وأهميته الأساسية في توجيه الاقتصاد السياسي، فهو في جوهره صراع من أجل إشباع الحاجات والرغبات الفردية؛ لكن الأساليب المتبعة في تحقيق السعادة هي موضع شك وتساؤل.
لا يمكن حل مشكلة الأخبار الكاذبة في مواقع التواصل الاجتماعي إلا بحل مشكلة الكذب الأكبر في المقولات الثقافية العامة في الغرب. وأخصُّ الأكاذيب التي تمهد مكافحتها لاستئصال جذور الكذب الأكبر، حتى تتلاشى أغصان الكذب الأصغر المعتاشة على تلك الجذور |
فمن الذي قرر أن يوم العمل يجب أن يكون ثماني ساعات (على الرغم من أن خمس ساعات قد تعادلها في الإنتاجية بل وتتفوق عليها مع توفير المزيد من الراحة للموظفين)؟ ولماذا يجب أن يستمر حرق الوقود الأحفوري حتى استنزاف الآبار وخنق الكوكب (مع أن مصادر الطاقة البديلة متوفرة ومتاحة)؟
ولماذا يجب أن تستمر المدن الإسمنتية في الزحف على الأراضي الزراعية ومسح الغابات الخضراء (مع أن عمل الناس في البلدات الصغيرة التي يسهل فيها التنقل سيراً على الأقدام أصبح ممكناً بفضل الربط الشبكي دون الحاجة إلى التكدس في المدن)؟ ولماذا يجب على المرء أن يحشو معدته بالأطعمة الرخيصة المصنعة والمليئة بالمواد المسرطنة (مع أن القليل من الطعام الطازج الشهي يفي بالغرض ويمنع الأمراض، حتى لو كان أغلى ثمناً)؟
هذا النمط من التحديث غير المستدام هو استمتاع سرطاني يستنزف الموارد الطبيعية ويلوث البيئة ويؤدي إلى بؤس النفس الإنسانية، ولا يملك أي مبرر تقني أو هندسي، إلا أنه يخدم مصالح الطبقة المحتكرة للسلطة والثروة.
4- العولمة الاقتصادية هي النظام العالمي الأمثل: تقوم هذه المغالطة على المغالطات السابقة، إذ يأتي أصحاب رؤوس الأموال العالمية ليسيطروا على مقدرات الحكومات الضعيفة، بالتعاون مع الطبقة التمثيلية المحتكرة للحكم والإعلام، في ظل صيغة الاستهلاك السرطاني والاستمتاع العابث. ولا يمكن تحقيق عولمة سليمة بغير رأسمالية اجتماعية وسيادة شعبية واستهلاك مستدام يحقق السعادة الحقيقية للإنسان.
إن تدريب العقل الفردي على الصدق في تتبع مصادر الثروة ومنابع السلطة وأسباب السعادة وطرق إعادة توزيعها عالمياً، سيؤدي إلى إعادة التوازن العلمي للحقائق، مما يحمينا من الوقوع في براثن الأكاذيب الصغيرة.
وبدون تصويب الأكاذيب الكبرى التي أرست قواعد النظام العالمي وعززها الليبراليون الجدد، لن يكون هناك سبيل لدحض الأكاذيب الصغرى التي يروج لها اليمينيون. الصدق هو العدل، والعدل هو في صالح الجميع.