رسالة كيكل- تلميع حميدتي أم تمهيد لتسوية مُرّة في السودان؟

أثار المشهد الذي تجسد في بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة للسودان، حيث ظهر اللواء أبو عاقلة كيكل، قائد ما يسمى بقوات درع السودان المتحالفة مع الجيش السوداني، محاطًا بنخبة مختارة من الصحفيين، سخطًا عارمًا في الأوساط الشعبية السودانية.
لم يكن مجرد انعقاد هذا اللقاء الصحفي هو الأمر المثير للاشمئزاز، بل على وجه الخصوص، التصريحات التي أدلى بها، والتي اتسمت بالغرابة الفائقة وربما السطحية، والتي اعتبرها البعض محاولة هزيلة للاستهانة بوعي الشعب السوداني وذاكرته الملطخة بالدماء التي ما زالت تنزف بغزارة.
لقد خرج كيكل، الذي لم يمضِ وقت طويل على اعتباره جزءًا لا يتجزأ من منظومة ميليشيا الدعم السريع، ليقدم شهادة "إنسانية" مفاجئة ومثيرة للدهشة بشأن قائد التمرد، محمد حمدان دقلو "حميدتي". فقد وصفه بأنه كان "حنون القلب"، و"كثير الصيام والعبادة"، بل وتجاوز ذلك ليؤكد أنه "كان يذرف الدموع بغزارة عند سماع أخبار الفظائع التي ترتكبها قواته"!
وقد تجلى بوضوح من خلال ردود الفعل الشعبية والنخبوية الرفض القاطع لهذا النوع من المحاولات، التي اعتبرت على نطاق واسع بمثابة تلاعب سافر بمشاعر الشعب السوداني المُضنى، الذي اكتوى بنيران هذه الحرب اللعينة وشاهد بأم عينيه أهوالها. إنها مساعٍ مشينة لتجميل صورة شخص لطخت يداه بدماء الأبرياء التي أُزهقت دون وجه حق. فهل يمكن أن يتحول التعبير العاطفي المزعوم إلى بديل مقبول للعدالة المفقودة؟
الأمر الأكثر إثارة للريبة والاهتمام العميق، هو ألا يكون حديث كيكل مجرد كلام عابر أو انطباعات شخصية عفوية، بل قد يكون جزءًا من محاولة دقيقة ومحكمة لإعادة صياغة صورة حميدتي وتقديمها في سياق جديد تمامًا. هذا السياق يبدو وثيق الصلة بمساعي التسوية السياسية التي يجري الحديث عنها وتداولها سرًا وعلانية، على المستويين الإقليمي والدولي.
عندما يتحول العسكري فجأة إلى راوٍ عاطفي، يسرد قصصًا مؤثرة عن خصمه اللدود، فعلينا أن ندرك تمامًا أن هناك جهة ما تحاول أن تقول لنا بصوت هامس: "انظروا، لا يزال بإمكانكم تصديق هذا الوجه الآخر من القسوة والوحشية".
هل كان كيكل "صنيعة استخباراتية" للجيش؟
في محاولة لإدراك أعمق للدوافع الخفية وراء تصريحات اللواء كيكل، وتأثيراتها المحتملة على المشهد السياسي السوداني برمته، يمكن طرح سؤالين جوهريين: إلى أي مدى يمكن اعتبار تصريحات اللواء كيكل "تسريبات مُخطط لها بعناية" أو "اعترافات تلقائية غير مقصودة"؟ وهل كانت هذه الإفادات تهدف حقًا إلى تبييض صورة حميدتي المشوهة، أم أنها جزء لا يتجزأ من استراتيجية أوسع نطاقًا تهدف إلى إعادة تشكيل صورته بما يخدم مصلحة طرف أو أطراف معينة ضالعة في هذه الحرب المدمرة؟
على الرغم من النبرة التي بدت في ظاهرها عفوية وغير متكلفة للواء كيكل، وهو يسرد بعض التفاصيل المتعلقة بقائد التمرد حميدتي، فإن السياق العام الذي أدلى فيه بهذه التصريحات المثيرة للجدل، والتوقيت الحساس الذي يمر به السودان، والمنبر الإعلامي الذي تم اختياره بعناية فائقة لنقل هذه "الاعترافات"، كلها عوامل تجعل من الصعب للغاية تصديق أنها مجرد "اعترافات تلقائية" أو انطباعات شخصية عابرة.
إن اللغة البراقة والمنمقة التي استخدمها كيكل في تصوير الجانب "الإنساني" المزعوم لحميدتي تحمل في طياتها دلالات أعمق بكثير مما توحيه كلماتها السطحية الظاهرية. إنها إفادات تبدو مشحونة بدلالات خفية ومُعدّة بعناية فائقة، ويبدو أنها تهدف إلى إعادة تركيب الصورة الذهنية لقائد أصبحت صورته مشوهة تمامًا في أذهان السودانيين قاطبة والعالم أجمع، وذلك بفعل جرائم الحرب المروعة والانتهاكات الموثقة التي ارتكبتها قواته الهمجية.
إن الطرح الذي يتردد بقوة في بعض الأوساط، والذي يفترض أن كيكل كان في الأصل "صنيعة استخباراتية" لصالح الجيش السوداني، وأن وجوده السابق في ميليشيا الدعم السريع كان جزءًا من مهمة اختراق أو مراقبة مُخطط لها بدقة متناهية، هو سيناريو مثير للاهتمام بلا شك. لكن في الوقت ذاته، يتطلب التعامل مع هذا السيناريو قدرًا كبيرًا من الحيطة والحذر والتحليل الواقعي الذي يستند إلى السياقات والمعطيات المتاحة.
فمن الضروري أن نتذكر جيدًا أن كيكل لم يكن مجرد ضابط عادي أو عنصر هامشي في ميليشيا الدعم السريع سيئة السمعة، بل شغل موقعًا حساسًا ومهمًا للغاية داخلها، وكان مقربًا من الدائرة الضيقة المحيطة بقائد التمرد. وهذا يشير بوضوح إلى أنه كان يتمتع بثقة عالية من قبل حميدتي شخصيًا، وهو أمر لا يُمنح عادةً لأي شخص يُشتم منه أدنى شك في ولائه أو ارتباطه بجهات أخرى معادية. لكن في المقابل، يجب أن نأخذ في الاعتبار النقاط التالية:
- إن وجود ضباط من الجيش أو الأجهزة الأمنية داخل تشكيلات عسكرية غير نظامية أو خارجة عن القانون، لأغراض الرصد وجمع المعلومات الاستخباراتية أو حتى محاولة التأثير في مجريات الأحداث، ليس سابقة جديدة في تاريخ السودان الحديث، أو في تاريخ الدول الأخرى التي شهدت صراعات وحروبًا مماثلة.
- لقد شهد تاريخ الانقلابات العسكرية والتحولات الأمنية الجذرية في مختلف دول العالم العديد من الشخصيات التي لعبت أدوار "الاختراق" المعقدة تحت غطاء من الولاء الظاهري للطرف الآخر المتنازع.
إن ما أدلى به كيكل مؤخرًا من إفادات وتصريحات، من الصعب وصفه بالعفوي تمامًا أو مجرد "اعتراف إنساني" غير مقصود، بل يبدو منسقًا ومُدارًا بقدر كافٍ يسمح له بالظهور العلني دون أن يتعرض للمساءلة القانونية أو المنع القسري، ويُسمع على نطاق واسع دون أن يتم تجاهل كلامه وتهميشه. وهذا الأمر يعزز بشكل كبير النظرية القائلة بأنه إما:
- عاد إلى صفوف الجيش بغطاء كامل ودعم غير محدود من المؤسسة العسكرية العليا، بعد أن أدى مهمة معينة داخل الدعم السريع (إذا كان بالفعل جزءًا من خطة استخباراتية مُحكمة).
- تمت إعادة توجيهه بشكل إستراتيجي من قبل جهات معينة ذات نفوذ قوي ليخدم الرواية العسكرية الجديدة، أو على الأقل ليقدم رواية بديلة تخدم مصالح الجيش وحلفائه الإقليميين والدوليين.
- تم "إطلاقه" في هذا التوقيت الحساس تحديدًا كجزء من عملية "إعادة كسب" للرأي العام السوداني الذي بات يكنّ كراهية شديدة لميليشيا الدعم السريع وقادتها المجرمين، أو كجزء من إستراتيجية أوسع نطاقًا ترمي إلى تفكيك صورة العدو من الداخل وزعزعة ثقة عناصره في قيادتهم الفاسدة.
إذا ثبتت صحة الفرضية بأن كيكل كان بالفعل "عينًا استخباراتية" متغلغلة في قلب الميليشيا طوال الفترة الماضية العصيبة، فإن ما يفعله الآن قد يكون بمثابة الكشف عن الفصل الأخير من مهمة طويلة ومعقدة وشاقة.
إن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: هل يمكن ربط "التسريبات" التي أدلى بها كيكل بما يدور في الكواليس من حديث متزايد عن وجود ترتيبات سياسية وتفاوضات محتملة لإنهاء الحرب الدائرة رحاها في السودان المنكوب؟
في هذا السياق، يمكن طرح عدة سيناريوهات محتملة الوقوع: هل تصرّف كيكل بمبادرة شخصية وبشكل منفرد تمامًا، محاولًا اللحاق بـ "بازار التسوية" المحتمل، وتلافيًا لغضب حميدتي الجامح بسبب انشقاقه المفاجئ عنه وانضمامه إلى الجيش؟ أم هل يمكن أن تكون هذه "التسريبات" قد تمت باتفاق وتنسيق مسبق مع قيادة الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، بهدف تمهيد الرأي العام السوداني تدريجيًا لقبول فكرة مشاركة حميدتي في أي تسوية سياسية مستقبلية، وذلك بعد حالة الغضب الشعبي العارم ضده بسبب الجرائم المروعة التي ارتكبتها قواته الهمجية؟
في ضوء ذلك، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة:
- السيناريو الأول: مبادرة فردية للنجاة بالذات: هل تصرف كيكل بمفرده تمامًا، مدفوعًا برغبة شخصية جامحة في تجميل صورته المتضررة بعد انشقاقه عن الدعم السريع وانضمامه إلى الجيش، ومحاولةً يائسة منه للعودة إلى حظيرة حميدتي أو على الأقل تخفيف حدة الغضب المتأجج تجاهه، إذا شعر بأن هناك صفقة سياسية قادمة لا محالة سيتم فيها تجاهل موقفه الحالي المحفوف بالمخاطر؟
- السيناريو الثاني: تنسيق كامل مع الجيش لـ "تلميع" صورة حميدتي المشوهة في أذهان الرأي العام السوداني الغاضب، بهدف تمهيد الطريق لقبوله طرفًا فاعلًا في تسوية سياسية قادمة، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة لإنهاء الحرب بأي ثمن بخس.
- السيناريو الثالث: بالون اختبار سياسي لقياس النبض: هل كانت تصريحات كيكل بمثابة "بالون اختبار" سياسي أطلقته جهة ما (ربما إقليمية أو دولية نافذة) لقياس رد فعل الرأي العام السوداني تجاه أي محاولة لإعادة دمج حميدتي في المشهد السياسي المستقبلي، أو على الأقل تخفيف حدة العداء والكراهية المتأصلة تجاهه؟
كيف يقنع البرهان شعبًا موجوعًا بتسوية مع الجلاد؟
إن التحدي الأخطر الذي سيواجهه البرهان حتمًا إذا ما أقدم فعلًا على الدخول في تسوية سياسية تشمل ميليشيا الدعم السريع وقادتها المجرمين، يكمن في كيفية إقناع شعب بأكمله موجوعًا ومثخنًا بالجراح الغائرة، وقوات نظامية باسل