العدوان الإسرائيلي في قطر- نقطة تحول حاسمة في المنطقة

إن استهداف إسرائيل لوفد حماس التفاوضي على الأراضي القطرية لا يمثل فحسب انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة قطر والقوانين الدولية الراسخة، بالإضافة إلى أعراف الحرب المستقرة، بل إنه يضع المنطقة بأسرها أمام مفترق طرق تاريخي بالغ الأهمية. فإما أن يتحول هذا الاعتداء الفاضح إلى سانحة لوقف الإبادة الجماعية المروعة في غزة والعدوان المستمر في المنطقة، وإما أن يشجع هذا التصرف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة على مزيد من التوسع والغطرسة في المنطقة.
لا حدود للعدوان
عقب استيعاب الصدمة الهائلة التي أحدثتها عملية "طوفان الأقصى" البطولية، سارعت إسرائيل إلى بناء منظومة أمنية وإستراتيجية جديدة في فلسطين والمنطقة بأسرها، وقد صرح بذلك بشكل علني العديد من المسؤولين الإسرائيليين، ثم تجسد هذا الأمر في سياساتها العدوانية المتهورة.
فقد رأت إسرائيل أنها تواجه خطرًا وجوديًا حقيقيًا بعد انهيار منظومتها الأمنية السابقة التي كانت قائمة بالأساس على مبدأ الردع، ووجدت في المقابل "فرصة تاريخية" قد لا تتكرر أبدًا لحسم القضية الفلسطينية برمتها، ثم الصراع مع جميع الأعداء والخصوم الحاليين والمستقبليين والمحتملين، منتهجة في سبيل تحقيق ذلك مبدأ الانتقام بوحشية لا هوادة فيها ودموية مفرطة من جهة، وترسيخ الوعي لتجاوز تداعيات عملية "طوفان الأقصى" من جهة أخرى.
منذ الأيام الأولى للعدوان الغاشم، كان مبدأ اغتيال قادة حماس العسكريين والسياسيين والحكوميين ركنًا أساسيًا في الحرب الإسرائيلية. وإذا ما تمكنت إسرائيل من اغتيال معظم قيادات الصف الأول السياسية والعسكرية في قطاع غزة المحاصر، فإن قيادات حماس الموجودة خارج فلسطين المحتلة شكلت تحديًا كبيرًا نظرًا لاحتمالات الفشل العملياتي من جهة، والتكلفة السياسية الباهظة من جهة أخرى.
لقد أعلنت إسرائيل بشكل رسمي وضع جميع قيادات حماس في الخارج على قوائم الاغتيال لديها. ثم تدرجت في التنفيذ الفعلي لتلك الخطط، حيث قامت باغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، في العاصمة اللبنانية بيروت، ثم اغتالت رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران.
كما قامت إسرائيل باغتيال قيادات الصف العسكري والسياسي الأول في حزب الله اللبناني، وعلى رأسهم الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، كما استهدفت عددًا كبيرًا من القيادات العسكرية والسياسية الإيرانية خلال الحرب معها، واغتالت كذلك رئيس وزراء حكومة صنعاء، أحمد غالب الرهوي، مع عدد من وزرائه المقربين.
ورغم إدراك الجميع بأن إسرائيل لن تفوت أي فرصة من أجل استكمال "المهمة" التي بدأتها، فإن وجود معظم هؤلاء القادة في كل من دولة قطر وجمهورية تركيا شكل تحديًا كبيرًا أمام إسرائيل، بالنظر إلى التكلفة السياسية المحتملة؛ بسبب العلاقات الوثيقة التي تربط الدولتين بالولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من العوامل الأخرى، ولذلك كان المتوقع أن تلجأ إسرائيل إلى استغلال بعض الثغرات الأمنية من أجل تنفيذ عمليات اغتيال "هادئة" دون تبنٍ مباشر لتلك العمليات. بيد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقياداته العسكرية والأمنية كان لديهم توجه آخر تمامًا.
كانت دولة قطر، نظريًا ونسبيًا، أكثر الأماكن أمنًا وحصانة في مواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل. فهي ليست في اشتباك مباشر مع إسرائيل، وإن حرضت عليها الأخيرة مرارًا وتكرارًا، وليست دولة حدودية مع فلسطين المحتلة، كما أنها تقع ضمن المظلة الأمنية الأمريكية في منطقة الخليج العربي، وتتمتع بعلاقات جيدة مع الإدارة الأمريكية في واشنطن، فضلًا عن كونها وسيطًا رئيسيًا في مفاوضات وقف إطلاق النار.
لقد ضربت إسرائيل بكل ما سبق ذكره عرض الحائط، واستهفت بشكل مباشر وفد التفاوض التابع لحركة حماس، والذي كان يناقش مقترحًا أمريكيًا لوقف إطلاق النار، ثم أعلنت بكل تبجح وصلف مسؤوليتها الكاملة عن العملية، على عكس تجنبها تبني اغتيال القادة العاروري وهنية، رغم أنهما اغتيلا على "أراضٍ معادية".
بالمنطق البسيط وكذلك بالعقل الإستراتيجي، فإنك حين تستهدف الطرف الأكثر أمنًا وأمانًا، فإنك بذلك ترسل رسالة واضحة للجميع بأنهم مستهدفون وتحت تهديد النيران بلا استثناء.
هذا المعنى أكده رئيس الكنيست الإسرائيلي، أمير أوحانا، حين نشر على منصة "إكس" مشاهد من استهداف دولة قطر، معلقًا بأن هذه "رسالة واضحة لكل منطقة الشرق الأوسط".
كما لم يبدُ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، نادمًا على ما اقترفه من جرائم، بل دعا الدول التي تستضيف قيادات من حركة حماس (واصفًا إياهم بالإرهابيين) إلى طردهم أو تسليمهم للعدالة، وإلا "فإننا سنفعل ذلك بأنفسنا" في رسالة تهديد مبطن للجميع.
ويمثل استهداف قيادات حماس في العاصمة القطرية الدوحة ذروة التهور في العدوان الإسرائيلي في المنطقة من حيث التكاليف السياسية الباهظة، لكنه يوحي في الوقت ذاته بالاستمرارية، بحيث يمكن أن تكون الخطوة القادمة هي تكرار المحاولة في دولة قطر، و/أو استهداف قيادات من حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في دول أخرى مثل جمهورية مصر العربية وجمهورية تركيا، و/أو استهدافًا مباشرًا لدول أخرى في المنطقة بأي ذريعة كانت، من منظور الأمن القومي الإسرائيلي الجديد، بغض النظر عن مدى وجود قيادات فلسطينية على أراضيها من عدمه.
وهنا، لا بد من التذكير بأن احتمالات تكرار العدوان الإسرائيلي على كل من لبنان وإيران واليمن ما زالت مرتفعة جدًا بالنظر إلى نتائج المواجهات السابقة والتطورات الأخيرة في البلدان الثلاثة، كما أن التنافس الساخن مع تركيا في سوريا ينذر باحتمال تحوله إلى مواجهة غير مباشرة، أو حتى مباشرة.
فالنهج الإسرائيلي في المنطقة لم يعد ينضبط بأي منطق أو أهداف سياسية أو إستراتيجية واضحة. كما من المفيد الإشارة إلى التواطؤ الأمريكي الواضح في العدوان الإسرائيلي الأخير، رغم محاولة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التنصل من ذلك لاحقًا.
تحويل الأزمة لفرصة
على الرغم من كل ما سبق ذكره، فإنه يمكن تحويل هذه الأزمة والتحدي الكبير إلى فرصة حقيقية لوقف الإبادة الجماعية المروعة في قطاع غزة والعدوان المتواصل على دول المنطقة، خصوصًا أن هذا الانفلات من كل عقال منطقي ينبع من نفسية متسرعة غير منتصرة ومطمئنة، فالمنتصر الواثق لا يقدم أبدًا على حماقات من هذا النوع، لكنه غرور القوة وانتشاء القدرة المتوهمة.
لقد كانت ردود الفعل الدولية على انتهاك سيادة دولة قطر سريعة وحادة ومباشرة، حتى ممن لا يرون بأسًا في استهداف قيادات المقاومة الفلسطينية. فقطر وسيط رئيسي في المفاوضات، ودولة خليجية فاعلة تملك منظومات أمنية ودفاعية متطورة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولديها علاقات جيدة واستثمارات ضخمة مع معظم دول العالم، ولا سيما الدول الغربية الكبرى.
كما كانت محاولة التنصل الأمريكية من العملية لافتة، وإن كانت غير مقنعة بالمرة. يضاف كل ذلك إلى الفشل في اغتيال قيادات حركة حماس، مما يزيد من الضغوط الداخلية المتزايدة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، وخصوصًا من جانب القيادات العسكرية التي ترى في العملية البرية الواسعة النطاق في قطاع غزة استنزافًا كبيرًا للجيش الإسرائيلي.
هنا، تتبدى فرصة حقيقية وواقعية وممكنة لوقف الحرب المدمرة. يجب أن تُعاقَب إسرائيل على ما فعلت من جرائم، وأن تدفع ثمنًا حقيقيًا للعدوان الأخير، وإلا فإن القادم على المنطقة بأسرها سيكون أسوأ بكثير.
يجب أن يكون الرد قويًا لا رمزيًا، وعمليًا لا لفظيًا، وجماعيًا لا فرديًا. وينبغي أن ينطلق من فكرة الدفاع عن النفس، وليس فقط من منطلق التضامن مع فلسطين أو دولة قطر.
هناك الكثير مما يمكن وينبغي فعله على المستوى الفردي للدول، وهناك أيضًا الكثير مما يمكن وينبغي فعله بشكل جماعي. يمكن لدولة قطر ومعها جمهورية مصر العربية الإعلان عن وقف المسار التفاوضي الذي قتلته إسرائيل بطائراتها التي قصفت وفد التفاوض في العاصمة القطرية الدوحة، والتأكيد بشكل حاسم على عدم العودة إليه إلا بالتزام إسرائيلي واضح وصريح، وضمانة أمريكية معلنة بخصوص وقف الحرب بدل المماطلة وكسب المزيد من الوقت.
كما يمكن للدول الخليجية مجتمعة إيصال رسالة واضحة وحازمة للإدارة الأمريكية بضرورة الضغط الحقيقي والملموس على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو و"إسرائيل" لوقف الحرب، مع التلويح بإمكانية إعادة النظر في العلاقات الخليجية – الأمريكية بما يشمل الاستثمارات والاتفاقات والمصالح المتعددة في المنطقة، وهو الأمر الذي لن يريد الرئيس الأمريكي جو بايدن تعريضه للخطر بأي حال من الأحوال.
قمة الدوحة: الفرصة الأخيرة؟
في هذا السياق، تتبدى الأهمية الاستثنائية للقمة العربية التي تستضيفها العاصمة القطرية الدوحة. ولأن القمم العربية – الإسلامية السابقة بخصوص قطاع غزة المحاصر قد توقفت عند حدود التصريحات والقرارات غير المنفذة على أرض الواقع، ولأن "إسرائيل" قد كسرت جميع حدود المنطق وتجاوزت كافة الخطوط الحمراء وما زالت تحظى بغطاء أمريكي كامل، فإنه يمكن لقمة الدوحة أن تكون الفرصة الأخيرة للجم العدوان "الإسرائيلي" المستمر في قطاع غزة والمنطقة بأسرها، وذلك من خلال إرسال رسالة ضغط حقيقية وخطوات عملية ملموسة على كل من تل أبيب وواشنطن، مفادها بأن استمرار العدوان الإسرائيلي لم يعد مقبولًا على الإطلاق، ولن يبقى دون رد أو عقاب رادع.
بعضٌ مما ينبغي للقمة العربية اتخاذه من قرارات للتنفيذ المباشر والفوري:
- أولًا، يجب وقف جميع أشكال العلاقات مع دولة الاحتلال والعدوان، سياسيًا واقتصاديًا وتجاريًا وأمنيًا وفي جميع المجالات الأخرى، بما في ذلك طرد السفراء والانسحاب الفوري من الاتفاقات الإبراهامية المشبوهة، وغلق الأجواء أمام جميع الطائرات الإسرائيلية، أو تلك المتجهة إليها، ومنع مرور أي سفن تتجه إليها بغض النظر عن جنسيتها وحمولتها… إلخ.
- ثانيًا، هناك فرصة حقيقية اليوم من أجل استدراك الفشل السابق واستثمار الموقف الدولي الحالي لكسر الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة المحاصر، وإدخال جميع مقومات الحياة الأساسية، ليس فقط كواجب إنساني وأخلاقي، ولكن كذلك من منطلق تقييم إستراتيجي بأن قطاع غزة يمثل فعلًا لا قولًا حائط صد منيع ودفاعًا قويًا للعالم العربي والإسلامي بأكمله.
- ثالثًا، تسريع وتعميق الخطوات القانونية المرتبطة بتجريم ومحاسبة دولة الاحتلال وقياداتها أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، والشروع في اتخاذ الخطوات العملية اللازمة لطردها من منظمة الأمم المتحدة.
- رابعًا، العمل الجاد على إعادة النظر بشكل شامل في المنظومات الأمنية والدفاعية في المنطقة، ولا سيما ما يرتبط منها بالولايات المتحدة الأميركية، ابتداءً من التعاون والتكامل الحقيقي بين دول المنطقة، مرورًا بتنويع مصادر السلاح، وصولًا إلى تحقيق الحماية الذاتية الكاملة على المدى البعيد.
لقد كانت الخطيئة الكبرى لكل من نابليون بونابرت ثم أدولف هتلر هي ثقتهما المفرطة بقوة جيشيهما وتفوقهما الساحق على الخصوم، مما دفعهما لفتح جبهات عديدة أكبر بكثير من قدرتهما على السيطرة والإخضاع لفترة طويلة، فكانت ذروة التوسع هي بداية التقهقر والانحدار لكليهما، كل في زمنه ووفقًا لظروفه الخاصة.
في المقابل، فشلت "سياسة الاسترضاء" البريطانية والأوروبية لهتلر قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بمنحه منطقة "السوديت" في تشيكوسلوفاكيا، حيث قرأها هتلر على أنها ضعف وتردد شجعه على اجتياح أوروبا بأكملها. في المقابل، كان قرار دخول الحرب بعد احتلال بلجيكا وتعدد الجبهات ضده من العوامل الرئيسية التي ساهمت في هزيمته في نهاية المطاف.
ورغم أن الاقتباس الحرفي في التاريخ ليس واردًا دائمًا، فإن دروسه تبقى حاضرة بقوة. اليوم، هناك فرصة حقيقية لتحويل غرور القوة لدى إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إلى انتكاسة حقيقية، لتكون ذروة العلوّ بداية الانحدار الحتمي.
لكن ذلك يتطلب قراءة دقيقة ومتأنية لحقبة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول في إسرائيل والمنطقة بأسرها، وامتلاك رؤية إستراتيجية واضحة للتغيير، وإرادة سياسية صلبة للمواجهة قبل التعرض لعدوان جديد من جانب إسرائيل، من جانب جميع دول المنطقة، بالبُعدين: الفردي، والجماعي.
اليوم، يقف العالم العربي والإسلامي أمام الحقائق العارية والقاسية لمشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يهدف إلى استهداف وإضعاف وتقسيم وربما احتلال الكثير من دوله، وبالتالي يقف أمام منعطف تاريخي حاسم، وعليه الاختيار بين العمل الجاد على وقف الإبادة الجماعية والعدوان المستمر، وإلا انتظار توسع الانتهاكات الإسرائيلية نحو استباحة شاملة للمنطقة بأسرها.