النكبة المستمرة- تآمر وتقصير أممي وتحديات تواجه الأونروا

لم تكن فاجعة فلسطين لتظهر إلى الوجود من دون المجازر المتكررة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، والتضييق المستمر عليه، والاستيلاء على أراضيه وممتلكاته على مدار أكثر من ثلاثة عقود، وذلك بدعم سافر وغطاء كامل من الاحتلال البريطاني، وبتسهيلات مشبوهة من الاتحاد السوفياتي سابقًا، ودول أوروبا الشرقية وأميركا، لتوريد الأسلحة إلى تلك العصابات الإجرامية.
إن النكبة، بكل ما انطوت عليه من أبعاد مأساوية، من قتل وتطهير عرقي وتهجير قسري للشعب الفلسطيني الأصيل، وجلب للملايين من الغزاة الصهاينة الأجانب، ما هي إلا امتداد طبيعي للمؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد برئاسة ثيودور هرتزل في مدينة بازل بسويسرا في التاسع والعشرين من أغسطس/ آب عام 1897. ومما جاء في صلب مقررات المشروع الصادر عن ذلك المؤتمر المشؤوم: "تهدف الصهيونية إلى إرساء دعائم وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، تحت حماية القانون العام".
بريطانيا تحتل فلسطين
لقد بدأ التنفيذ الفعلي لمسار النكبة الكارثي مع الاحتلال البريطاني الغاشم لفلسطين في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1917، ودخول مدينة بئر السبع العربية الأصيلة، وإصدار وعد وزير خارجية بريطانيا المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود في تاريخ الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني للعام 1917، وتأكيد عصبة الأمم لاحقًا وبشكل رسمي على مشروع الانتداب البريطاني الباطل على فلسطين في 24 يوليو/ تموز من العام 1922.
إن من يغالط الحقيقة السياسية الدامغة، ويعتقد أن نكبة فلسطين قد بدأت مع قيام دولة الاحتلال الغاصبة على أرض فلسطين الحبيبة في الخامس عشر من مايو/ أيار 1948، أو أن النكبة كانت مجرد نتيجة لتسليم جيش الإنقاذ العربي، الذي شُكّل ظاهرًا لتحرير فلسطين، الأرضَ للعصابات الصهيونية، فهو واهم.
إنها "نكبة ممتدة" لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وقد اتخذت في سنواتها المتعاقبة أوجهًا مختلفة، سياسية وأمنية في المقام الأول، وثقافية من خلال محاولات بائسة لطمس الهُوية الوطنية الفلسطينية، وممارسة شتى أنواع الضغوط على الفلسطينيين الأبرياء من قبل الاحتلال البغيض، من خلال الاقتحامات الليلية وانتهاكات حرمة المنازل والعائلات، والعقوبات الجماعية الظالمة، وأعمال التفتيش والاعتقال التعسفي والتعذيب الوحشي، ودفع الفلسطينيين قسرًا للهجرة والنزوح، وفرض غرامات باهظة سواء مالية أو عينية من حبوب ومواشي على القرى التي تُعتبر غير متعاونة، ونزع منظم لسلاح الفلسطينيين البدائي، والذي هدف إلى إضعاف المقاومين ومنعهم من الدفاع عن أنفسهم وأراضيهم، بالإضافة إلى الاعتداءات الجماعية وقمع المتظاهرين السلميين واعتقال وإعدام قادتهم، كإعدام قادة ثورة البراق المباركة التي اندلعت سنة 1929، وهم محمد جمجوم، وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من مدينة صفد في 17 يونيو/ حزيران 1930.
التطهير العرقي في فلسطين فكرة متوارثة
ولتأكيد فكرة التطهير العرقي للفلسطينيين وتكريسها على أرض الواقع، قام ديفيد بن غوريون بكتابة رسالة إلى ابنه في العام 1937، قال فيها بوقاحة: "يجب علينا أن نطرد العرب، ونستولي على أماكنهم". وفي شهر مايو/ أيار من العام 2021، ردّ المستوطن المتطرف يعقوب على السيدة المقدسية منى الكرد، صاحبة المنزل الأصيلة في القدس، عندما صرخت في وجهه قائلة: "يا يعقوب، أنت تسرق منزلي!"، فأجابها بصلف وعجرفة: "إن لم أسرقه أنا، فسيسرقه غيري، ولكنكِ لن تعودي إليه أبدًا".
لم تكن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" لتنشأ من الأساس لولا عمليات الطرد الممنهجة والتطهير العرقي القسري لما يقارب 950 ألف فلسطيني. ويشير المؤرخ الفلسطيني القدير الدكتور سلمان أبو ستة إلى أن نسبة واحد في المئة فقط قد خرجوا طوعًا من أرض فلسطين، وأن 10% قد غادروا نتيجة لحرب "الهمس" والإشاعات المغرضة التي كان يبثها المحتل البريطاني الخبيث بالتعاون والتنسيق مع العصابات الصهيونية الإجرامية، وأن 89% من الأهالي قد أُجبروا على الخروج من فلسطين؛ بسبب المجازر المروعة التي كانت تُرتكب بحقّ الآمنين العزل.
لقد تمّ الإعلان عن قيام الكيان الصهيونيّ الغاصب على أرض فلسطين بموجب القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمسجل برقم 273 بتاريخ 11 مايو/ أيار 1949، أي قبل الإعلان عن إنشاء وكالة الأونروا في 8 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه.
ولكي يُعترف بهذا الكيان كدولة كاملة العضوية، اشترطت الأمم المتحدة على هذا الكيان تطبيق القرارين: 181 الصادر في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 (وهو قرار تقسيم فلسطين)، والقرار رقم 194 الصادر في 11 ديسمبر/كانون الأول 1948، والذي أكد بشكل قاطع على حق العودة والتعويض واستعادة الممتلكات المسلوبة. بيدَ أن أيًا من هذين القرارين المصيريين لم يُنفَّذ حتى يومنا هذا، ممّا يجعل شرعية الكيان الصهيوني معلّقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو أمر لا يزال يقضّ مضاجع استقراره الإستراتيجي المزعوم.
لقد عمل الاحتلال الغاشم بكل ما أوتي من قوة على إفشال دور ومهام "لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين"، والتي انبثقت عن القرار رقم 194، والتي كانت مهمتها الأساسية وضع الآليات التطبيقية لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وبيوتهم التي طُردوا منها قسرًا.
في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام 1949، تم إنشاء وكالة الأونروا كوكالة مؤقتة لمدة سنة واحدة فقط، يتم خلالها تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة، من الصحة والإغاثة بشكل خاص، والعمل جنبًا إلى جنب مع الدول التي استضافت اللاجئين على دمج من يرغب من اللاجئين الفلسطينيين في مجتمعات الدول المضيفة، وعلى التوازي، تعمل "لجنة التوفيق الدولية" على إعادة من يرغب من اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم وأراضيهم.
تنجح الأمم المتحدة في قضايا وتفشل في واحدة
خلال العشر سنوات الأخيرة من القرن الماضي، نجحت الأمم المتحدة في إعادة ما يقارب 10 ملايين لاجئ من دول اشتعلت فيها نيران الحروب والنزاعات، مثل غواتيمالا، وكوسوفا، وتيمور الشرقية، وموزمبيق، وغيرها الكثير من الدول. بينما تقف عاجزة تمامًا، وبعد مرور 77 عامًا، عن تطبيق القرار الأممي رقم 194، لتكرس بذلك، وبشكل قاطع لا لبس فيه، سياسة المعايير المزدوجة الفاضحة والكيل بمكيالين، وخضوع المنظمة الدولية لبطش وسلطة ونفوذ الاحتلال البغيض، مدعومًا بكل قوة من الإدارة الأميركية المتعصبة، وليصبح ذلك وصمة عار تلطخ جبين الأمم المتحدة إلى الأبد.
كما فشلت الأمم المتحدة فشلًا ذريعًا في أن تغلق وكالة الأونروا، وفي أن تطبق حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وحتى أنها لم تكلف نفسها عناء التفكير في الضرورة الإستراتيجية لتوسيع ولاية الوكالة بعد عقود طويلة من وجودها، وهي التي تجدد ولايتها المحدودة كل ثلاث سنوات فقط، وآخرها حتى شهر يونيو/ حزيران 2026، لتشمل اللاجئين الفلسطينيين في مختلف دول العالم وقاراته، حيث اقتصرت سجلاتها المحدودة على وجود اللاجئين في مناطق عملياتها الضيقة في غزة والضفة الغربية، وسوريا، ولبنان، والأردن فقط.
وتشير سجلات وكالة الأونروا إلى أنها، وحتى تاريخ 28 سبتمبر/ أيلول 1951، كانت قد قدمت خدماتها المتواضعة لـ 23.998 لاجئًا فلسطينيًا داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. ولكن لاحقًا، وبالتنسيق الكامل مع الأمم المتحدة، قام الكيان الصهيوني بمنح هؤلاء اللاجئين الجنسية الإسرائيلية قسرًا، فتوقفت الأونروا عن تقديم أي خدمات لهم.
كما لم تأخذ الأمم المتحدة بعين الاعتبار وجود تجمّعات أخرى للاجئين الفلسطينيين في كل من العراق ومصر، اللتين كان يمكن إضافتهما بكل سهولة إلى سجلات الأونروا، ولم تكن هاتان الدولتان لتمانعا في ذلك أبدًا، بل أكثر من ذلك، فقد اعتبرت أن اللاجئ الفلسطيني الذي يمكن أن يستفيد من خدمات الأونروا، هو فقط من خرج من فلسطين حتى تاريخ الأول من شهر مايو/ أيار 1950 حصرًا، ولم تأخذ بعين الاعتبار تسجيل موجات أخرى من الهجرة المتتالية من داخل فلسطين المحتلة إلى الدول المحيطة، والتي استمرت حتى نهاية خمسينيات القرن الماضي، واعتبرت هؤلاء اللاجئين في سجلاتها لاجئين فلسطينيين "غير مسجلين"، وبالتالي لا يحصلون على الخدمات التي يحصل عليها اللاجئ المسجل، والذي اضطر للخروج قبل ذلك التاريخ التعسفي.
هناك مسألة أخرى نراها جوهرية، وهي أنه لم يتم الأخذ بعين الاعتبار تعديل في ولاية وكالة الأونروا، لتشمل عملية التمويل، التي لا تزال تعتبر تبرعات طوعية سخية من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى تبرعات متقطعة من قبل بعض المؤسسات والأفراد المحسنين.
إن التبرع الطوعي كان له ما يبرره في العام 1949، حين إنشاء الوكالة كحل مؤقت، على اعتبار أنها ستغلق أبوابها بعد سنة واحدة فقط، ويعود اللاجئون الفلسطينيون إلى ديارهم وبيوتهم، أما مع مرور عقود طويلة على اللجوء المرير، ومع ارتفاع أعداد اللاجئين لتصل إلى أكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجل، وزيادة الاحتياجات الملحة، بات لزامًا وحتميًا أن يتحول تمويل الوكالة إلى تمويل ثابت ودائم من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والذي يعبر عن مسؤولية سياسية دولية راسخة تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين العادلة، وعدم الاكتفاء بالتبرعات الطوعية المتقطعة، والتي تخضع لمصالح الدول الضيقة، فليس هناك دولار واحد يُدفع بالمجان، فالدول ليست جمعيات خيرية.
المسألة الجوهرية الأخرى المتعلقة بوكالة الغوث تتعلق كذلك بطبيعة الخدمات الهشة التي تقدمها الوكالة للاجئين، وهي خدمات غير مكتملة على الإطلاق، فالوكالة لا تقدم الخدمات الصحية والطبية كاملة، وكذلك الخدمات التعليمية والإغاثية والقانونية الضرورية، وأعمال البنى التحتية الأساسية في المخيمات البائسة.
إن الوكالة تكتفي بتقديم الحماية الإنسانية للاجئين الفلسطينيين من خلال الاكتفاء بما تقدمه من خدمات محدودة في مجالات الصحة والتعليم والإغاثة والمناصرة، ومن خلال التقارير الدورية الصادرة عنها، والتي تشخص الوضع الإنساني للاجئين الفلسطينيين في أماكن تواجدهم المختلفة فقط، بالإضافة إلى أن الوكالة تقدم الاستشارات القانونية الضرورية فقط، ومن النادر جدًا أن تقوم الوكالة بتعيين محامٍ للدفاع عن حقوق اللاجئين، مثلًا في محاولة جادة للحصول على حقوق اللاجئ المسلوبة من أي دولة مضيفة.
كما تفتقر وكالة الأونروا بشكل خطير إلى تقديم الحماية الجسدية المباشرة للاجئين الفلسطينيين، ولم يكن تعطيل دور ومهام "لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين" في مطلع خمسينيات القرن الماضي، والتي تشكلت من كل من فرنسا، وتركيا، وأميركا، إلا لإدراك الاحتلال الخبيث لأهمية الدور السياسي والإنساني والقانوني، والحماية الجسدية الشاملة التي كان يمكن أن تلعبها هذه اللجنة.
تعتبر "لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين" أكثر أهمية بكثير من وكالة الأونروا، والتي عُهِد إليها بمسؤولية توفير الحماية الدولية للاجئين الفلسطينيين بالمعنى الشامل (القانونية، والفيزيائية، والإغاثية/ الإنسانية والسياسية) بالتنسيق الكامل مع الدول المضيفة، ووضع آليات عملية تضمن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم الأصلية في فلسطين واستعادة ممتلكاتهم المسلوبة، وتعويضهم تعويضًا عادلاً تطبيقًا للقرار رقم 194، الذي يأخذ بعين الاعتبار جميع اللاجئين الفلسطينيين في مناطق عمليات الأونروا والعالم بأسره، بمن فيهم الفلسطينيون المهجرون قسرًا داخل فلسطين المحتلة عام 1948.
إن الأمم المتحدة قادرة تمامًا على أن تُنهي نكبة فلسطين الممتدة، وما نتج عنها من تأسيس لوكالة الأونروا، وأن تضع حدًا سياسيًا صارمًا وقويًا يلجم الاحتلال الغاشم ووحشيته المتزايدة، واستهدافه وتنكره المستمر لقضية اللجوء الفلسطيني العادلة، واستهدافه المنهجي للوكالة الأممية، من خلال الضغط المتواصل على الكيان الصهيوني لتحقيق العودة الآمنة والكريمة للاجئين، ولكن تراكم موازين القوى المختلة في المطبخ الدولي الفاسد، الذي يتنكر لكل المعايير الحقوقية والإنسانية، ويتغلب بشكل سافر على قوة الحق الفلسطيني الأصيل، هو الذي يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى العودة العاجلة إلى جادة الصواب والعدل.