بيروت تحت القصف- تصعيد إسرائيلي يهدد الاستقرار الإقليمي

المؤلف: صهيب جوهر08.30.2025
بيروت تحت القصف- تصعيد إسرائيلي يهدد الاستقرار الإقليمي

في ليلة مباركة من ليالي عيد الأضحى، أضحت بيروت مجددًا هدفًا مباشرًا للغارات الإسرائيلية، الأمر الذي يشكل منعطفًا خطيرًا يحمل في طياته دلالات تتجاوز حدود جغرافية لبنان.

لا يمكن اعتبار هذه الضربة حدثًا منعزلًا أو مجرد رسالة تكتيكية عابرة، بل هي تأتي في سياق مشهد إقليمي يعصف بالمنطقة، حيث تتداخل فيه العوامل المحلية والإقليمية والدولية، وتُستخدم الأراضي اللبنانية كساحة لتوجيه رسائل متعددة الأوجه في توقيت بالغ الدقة والحساسية.

منذ أن توقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام الماضي، وعلى الرغم من التوتر الذي تشهده الجبهة الجنوبية حتى وقتنا هذا، وتعدد جولات التصعيد، حافظت إسرائيل على "تحفظ" معين تجاه استهداف العاصمة اللبنانية، ويعود ذلك إلى الإصرار الأميركي على منح فرصة للحكومة اللبنانية التي تشكلت عقب الحرب، إلا أن الضربة الأخيرة التي استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت، قد كسرت هذا التفاهم غير المكتوب، مما يدل على تصعيد استراتيجي يتجاوز كونه مجرد رد فعل أو عمل ميداني ظرفي، بل هو قرار سياسي ذو أبعاد إقليمية واسعة.

تتجه الرسالة الأولى إلى الداخل اللبناني، وتحديدًا إلى البيئة السياسية والدبلوماسية التي تنشط بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة من أجل التوصل إلى تسوية داخلية بشأن سلاح حزب الله، وسلاح المخيمات الفلسطينية، في ظل ضغوط دولية متزايدة لوضع هذا الملف على طاولة المفاوضات.

الجدير بالذكر أن حزب الله، وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، لا يمانع في البحث عن "صيغة معالجة" لسلاحه، ولكنه يضع شروطًا محددة تتعلق بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجنوب، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، وتقديم ضمانات دولية واضحة لإعادة الإعمار.

هذه المواقف قد أثارت نقاشًا واسعًا في الداخل حول إمكانية إدخال الحزب في تسوية أشمل تهدف إلى ترتيب وضعه العسكري مقابل انخراطه الكامل في الدولة. غير أن الضربة الإسرائيلية التي استهدفت بيروت في ليلة العيد، تهدف إلى تقويض هذا المناخ الإيجابي، وإعادة خلق بيئة "على حافة الهاوية"، بهدف إفشال أي تفاهم لبناني-لبناني أو لبناني-دولي بشأن معالجة ملف السلاح في إطار منطق سياسي تفاوضي.

في هذا السياق، لا يمكن فصل الاستهداف الإسرائيلي الأخير عن الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي يبذلها رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، والتي تهدف إلى تشكيل لوبي دولي ضاغط يدفع باتجاه انسحاب إسرائيل الكامل من جنوب لبنان، وفتح الباب أمام عملية إعادة إعمار شاملة. يسعى عون، الذي كثف لقاءاته مع أطراف أوروبية وعربية خلال الأسابيع الماضية، إلى استغلال مؤتمر باريس المرتقب في الشهر القادم كمنصة رسمية لإطلاق مبادرة متكاملة تربط بين الانسحاب الإسرائيلي، وتثبيت الاستقرار في الجنوب، من خلال التزام دولي سياسي ومالي بإعادة الإعمار.

لكن الضربة على بيروت جاءت بمثابة صفعة استباقية لهذه الجهود المضنية، حيث تسعى إسرائيل من خلالها إلى وأد أي مناخ دولي أو تفاهم لبناني-غربي يُعيد وضع مسألة الانسحاب من الجنوب على جدول الأعمال الدولي.

بالنسبة لتل أبيب، فإن السماح بتحرك لبناني منسق برعاية فرنسية وأوروبية من شأنه أن يُعيد فتح ملف الحدود والنقاط المتنازع عليها وحقوق لبنان السيادية، وهي مسائل تسعى إسرائيل جاهدة لإخراجها نهائيًا من دائرة التداول. وبالتالي، فإن التصعيد الأخير لا يُقرأ فقط كسلوك عسكري، بل هو بمثابة موقف سياسي يهدف إلى تعطيل الدينامية الدبلوماسية اللبنانية قبل أن تكتسب زخمًا في المحافل الدولية.

منذ اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2023، تعتبر إسرائيل نفسها في "بيئة استراتيجية ذهبية". فالحرب قد وفرت لها غطاءً دوليًا غير معلن للقيام بأمور لم تكن تستطيع فعلها في السابق، مثل توسيع نطاق العمليات العسكرية خارج الأراضي المحتلة، وضرب المحيط الجغرافي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، وحلفاء إيران من دون الحاجة إلى تقديم مبررات قانونية أو دبلوماسية.

في هذا الإطار، تتحرك إسرائيل في اتجاه ما يمكن تسميته بإعادة تشكيل النظام الأمني الإقليمي، ضمن صيغة ردع استباقي يمنحها حرية التدخل في دول الجوار: من غزة إلى بيروت، مرورًا بسوريا. في هذه المعادلة، لم تعد إسرائيل مهتمة بتفاهمات مؤقتة أو تهدئات موضعية، بل تسعى لفرض قواعد اشتباك جديدة تقوم على الردع المسبق و"القصاص الجغرافي".

بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن الحرب المفتوحة (أو شبه المفتوحة) هي السبيل الوحيد للإبقاء علي قبضته على السلطة، والهروب من الملاحقات القضائية والأزمات الداخلية المتفاقمة. فكلما طال أمد الحرب، زادت قدرته على تصدير الأزمة الداخلية إلى الخارج، واستثمارها في ترتيب النظام الإقليمي بما يخدم رؤيته الأمنية والعقائدية الخاصة.

في المقابل، لا يمكن فصل الضربة على بيروت عن المناخ السياسي الإقليمي الأوسع نطاقًا، لا سيما مع الحديث المتزايد عن تفاهم أميركي-إيراني محتمل، تدفع نحوه عواصم عربية وإقليمية. فالمفاوضات الجارية منذ أشهر في الدوحة وسلطنة عمان بين طهران وواشنطن – بمشاركة غير مباشرة من حزب الله – باتت تشكل مصدر قلق استراتيجي بالغ الأهمية لتل أبيب.

تخشى إسرائيل من أن يؤدي أي تفاهم أميركي-إيراني إلى تخفيف الضغوط على أذرع طهران في المنطقة، وخصوصًا حزب الله، الذي قد يحصل في المقابل على شرعية سياسية داخلية وإقليمية مشروطة. من هنا، يُفهم الاستهداف الإسرائيلي لبيروت كرسالة واضحة إلى واشنطن: مفادها أن أي تفاهم مع طهران يجب أن يراعي أولًا حسابات الأمن الإسرائيلي، وإلا فإن إسرائيل ستواصل اللعب بالنار لتعطيل أي مسار تفاوضي.

لكن في الجهة المقابلة، لا تبدو الصورة أكثر وضوحًا في واشنطن. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يخوض مواجهة سياسية محتدمة مع نتنياهو بشأن غزة والملف الإيراني، قد أطلق قبل أسبوعين حملة "تطهير" واسعة النطاق داخل مجلس الأمن القومي الأميركي، الذي يعتبر الجهة الأرفع المسؤولة عن رسم سياسات البيت الأبيض الخارجية.

فقد قام ترامب بإقالة رئيس المجلس الأمني بسبب تواصله مع نتنياهو دون علمه، كما أعاد هيكلة العشرات من المواقع الحساسة داخله، عبْر وزير الخارجية الجديد ماركو روبيو. هذه التغييرات قد طالت شخصيات بارزة مثل ميراف سيرين، مديرة قسم إيران وإسرائيل، وإريك ترايغر، المسؤول عن شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وهما من أشد المؤيدين لإسرائيل، وقد تم استقدامهما سابقًا من قبل مستشار الأمن القومي المقال مايك ولتز.

تهدف هذه الإجراءات التي وصفها بعض المراقبين بـ"الانقلاب الناعم"، إلى تقليص النفوذ الإسرائيلي داخل مؤسسات القرار الأميركي، من دون المساس بالتحالف التاريخي بين الطرفين. لكنها تعبر بوضوح عن وجود توجه قوي داخل إدارة ترامب لاستعادة السيطرة على القرار الاستراتيجي بعيدًا عن الإملاءات الإسرائيلية، خاصة في ظل تباعد الرؤى بشأن الملف الإيراني والحرب على غزة.

ماركو روبيو، على الرغم من تأييده التقليدي لإسرائيل، لا يتبنى بالكامل أجندتها الإقليمية. ويبدو أنه يسعى إلى تقديم رؤية أكثر "أميركية الهوى"، تستند بالأساس إلى المصلحة القومية المباشرة، وليس إلى صدى اللوبي الإسرائيلي القوي في واشنطن.

وفقًا للمطلعين في واشنطن، فإن ترامب قد بات مقتنعًا بضرورة تحقيق إنجاز خارجي كبير قبيل الانتخابات النصفية القادمة، خصوصًا بعد خيبة أمله من مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ملف أوكرانيا، وتصاعد خلافه مع نتنياهو بشأن استراتيجية التعامل مع غزة.

في هذا السياق، يبدو أن الرئيس الأميركي لا يرغب في التورط في حرب مفتوحة مع إيران، بل يفضل إنجاز تفاهم "مرن" معها، قد يساهم في تهدئة الجبهات ويُظهره بمظهر الرئيس القادر على تحقيق الاستقرار في المنطقة. من هنا، فإن الضربة الإسرائيلية لبيروت قد تكون في أحد وجوهها محاولة إسرائيلية لجر واشنطن إلى حافة التصعيد، أو على الأقل تعطيل المفاوضات الإيرانية-الأميركية الجارية.

في نهاية المطاف، ما جرى في ليلة عيد الأضحى في بيروت ليس مجرد حادث أمني عابر، بل يمثل محطة جديدة في معركة السيطرة على القرار الإقليمي، حيث أن إسرائيل تُصعد من أجل فرض معادلة ردع شاملة تمنع أي تسوية سياسية، بينما تحاول واشنطن جاهدة إعادة ضبط أولوياتها في المنطقة من خلال بوابة المفاوضات مع طهران.

أما لبنان، فيجد نفسه – كالعادة – في قلب العاصفة: دولة تعاني من هشاشة المناعة، وملف محوري في لعبة أمم كبرى، وبيئة تتصارع عليها الضغوط الدولية والشروط الداخلية المعقدة، بينما شعبه يحتفل بالعيد تحت أصوات الطائرات الحربية، وفي خضم قلق عميق من أن تكون الضربة الأخيرة مجرد إيذان ببدء جولة أخرى أكثر عنفًا وتدميرًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة