ترامب الثاني- الشعبوية، السياسة الخارجية، والانتقام في عالم مضطرب

لم تكن الانتخابات الرئاسية الأمريكية مجرد حدث داخلي يخص الولايات المتحدة فحسب، بل كانت حدثًا عالميًا ذا تأثيرات جمّة على السياسة الدولية والاقتصاد العالمي. الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لم تخرج عن هذا الإطار، بل ازدادت أهميتها في ظل الظروف العالمية غير المستقرة، والتي تشمل الحرب الروسية الأوكرانية، والصراع الدائر في غزة، والتوترات المتصاعدة في مناطق مختلفة حول العالم، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية.
لم يكن فوز ترامب في الانتخابات مفاجئًا للكثيرين، بل كان متوقعًا إلى حد كبير، خاصةً مع استمرار سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الشيوخ والنواب. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل سيكون ترامب في ولايته الثانية نسخة طبق الأصل من ترامب في ولايته الأولى؟ على الأرجح، سيكون هناك اختلافات جوهرية بينهما.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsترامب يوقع أمرا تنفيذيا لإلغاء وزارة التعليم
"مبعوث يسوع".. هل سيُدخل ترامب أميركا عصر الهيمنة المسيحية؟
خلال فترة ولايته الأولى، اتُهم ترامب بأنه كان يتحدث باسم الطبقة الفقيرة خلال حملته الانتخابية، ولكنه في الواقع كان يخدم مصالح الأثرياء. من المتوقع أن يختلف الوضع في ولايته الثانية، حيث من المرجح أن يتجنب الصدام المباشر مع مؤسسات "الدولة العميقة" وأن يسعى إلى التعاون مع الخبراء والمختصين.
لا يمكن إغفال حقيقة مهمة، وهي انتشار "الترامبية" في أوساط المجتمع الأمريكي، أو ما يمكن تسميته بالنزعة الشعبوية. تجلّت هذه النزعة بوضوح في الانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة (2020)، حيث حصل ترامب على أكثر من 73 مليون صوت على الرغم من الانقسامات التي شهدها المجتمع الأمريكي بسبب جائحة كوفيد وقضية مقتل جورج فلويد.
على الرغم من خسارة ترامب في تلك الانتخابات، إلا أن "الترامبية" لم تهزم. وها هي هذه النزعة تعود بقوة في الانتخابات الأخيرة، بفوز واضح في الانتخابات وسيطرة على الكونجرس.
تعتمد هذه النزعة الشعبوية في الولايات المتحدة على الشعور المتزايد بالخوف لدى الفئات الهشة في المجتمع، بالإضافة إلى النزعة الهوياتية التي تدعو إلى الحفاظ على الهوية البيضاء والمسيحية لأمريكا.
ترى هذه الفئات في ترامب الشخص الذي يعبر عن مخاوفها ويهدئ من روعها إزاء فقدان مكانتها أو تهديد "نقاء" المجتمع أو تغيير ثقافته، وذلك من خلال تبني سياسات حمائية اقتصادية واجتماعية، مثل الحد من الهجرة.
بعبارة أخرى، فإن الاتجاه الشعبوي متجذر في المجتمع الأمريكي، وشعاره "أمريكا أولاً" أو "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، وهو الشعار الذي حمله ترامب في حملاته الانتخابية (MAGA). من المتوقع أن يحصل هذا الاتجاه على دفعة قوية مع الولاية الثانية لترامب، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل أيضًا في أوروبا، وأن تشعر الأنظمة السلطوية في العالم بنوع من الدعم مع التغيير الذي حدث في الولايات المتحدة.
هناك فرق شاسع بين خطاب تنصيب الرئيس الحالي بايدن، الذي ركز على الديمقراطية وضرورة حمايتها، وبين السياق الحالي الذي يخدم الأنظمة القوية.
ومع ذلك، فإن هذه النزعة الشعبوية في الولايات المتحدة تصطدم بسياق دولي جديد ومختلف تمامًا عن السياق الذي أوصل ترامب إلى الرئاسة في عام 2016. هذا السياق يتميز بالحرب الروسية الأوكرانية والصراع في غزة، وهما بؤرتان لهما تداعيات عالمية وتطرحان تحديات للولايات المتحدة.
على الرغم من أن الجمهوريين عمومًا وترامب على وجه الخصوص يميلون إلى تبني سياسة انعزالية، إلا أن السياق العالمي الجديد يفرض على الولايات المتحدة الانخراط لحماية مصالحها الإستراتيجية.
من غير المتوقع حدوث تغيير في التحالفات الكبرى التي عقدتها الولايات المتحدة، مثل أوكوس AUKUS وكواد QUAD، أو في المتطلبات الجديدة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تم الاتفاق عليها في المؤتمر الذي انعقد في وارسو عقب الحرب الروسية الأوكرانية. في المقابل، من المرجح أن يتراجع انخراط الولايات المتحدة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية.
أما العنصر الثالث، وهو ذو طبيعة شخصية، فهو رغبة ترامب في الانتقام ممن يعتبرهم قد أساءوا إليه و"سرقوا" فوزه في انتخابات عام 2020 وعرضوه للملاحقة القضائية.
من المتوقع أن يظل ترامب يركز على عناصر "الدولة العميقة" التي لم تكن تنظر إليه بعين الرضا، وأن يوجه سهامه إلى الحزب الديمقراطي والليبراليين وأشخاص معينين ممن عملوا معه وعارضوه علنًا.
ليس من المستبعد أن تتجاوز رغبة ترامب في الانتقام حدود الولايات المتحدة لتشمل أولئك الذين دعموا منافسه بايدن أو سخروا منه أو قللوا من شأنه. من المتوقع أيضًا أن يتعامل ترامب بشكل تفضيلي مع الدول التي راهنت عليه.
ومع ذلك، لا يُتوقع حدوث تغيير جوهري في السياسة الخارجية الأمريكية في القضايا الرئيسية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والوضع في غزة، والتعامل مع الصين.
تعتبر الحرب الروسية الأوكرانية مسألة مبدئية بالنسبة للولايات المتحدة. إنهاء الحرب بالشروط التي تضعها روسيا، أي ضم أراضي الدونباس وتحييد أوكرانيا، يشكل هزيمة مبدئية للولايات المتحدة. من غير المرجح أن يقدم ترامب على خيار يعرض بلاده لخسارة من هذا النوع، حتى لو لم تكن خسارة إستراتيجية.
أما بالنسبة للشرق الأوسط، فلا يُتوقع حدوث تغيير في القواعد التي تم وضعها خلال ولاية ترامب الأولى، والتي تشمل اتفاقيات أبراهام التي ستظل الدعامة الأساسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
قد تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا لتعطيل ما يعرف بخطة الجنرالات بشأن غزة، وتشجيع الدول العربية الحليفة على المشاركة في إعادة الإعمار. من المستبعد أن تتخذ الولايات المتحدة أي إجراءات لوقف الاستيطان في الضفة الغربية.
من المحتمل أن تمارس الإدارة الأمريكية الجديدة ضغوطًا لوقف الضربات العسكرية الإسرائيلية على لبنان، والعمل على إعادة الأمور إلى نصابها في لبنان بعد إضعاف نفوذ حزب الله، أي إعادة لبنان إلى "الحضن الغربي".
من المتوقع ممارسة ضغوط أكبر على إيران لوقف برنامجها النووي، واستغلال المعارضة الخارجية، وتوظيف الخلافات الداخلية في النظام الحاكم، دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية. السياق الجديد الذي نشأ بعد الحرب في غزة يصب في مصلحة الولايات المتحدة لممارسة الضغط على إيران، مع وجود تصدعات داخل المنظومة الأمنية وإضعاف أذرع إيران في المنطقة.
تبقى الصين في دائرة ما يسميه الإستراتيجيون "اللعبة الطويلة"، ولا يمكن توقع تغيير جذري في السياسة الأمريكية تجاهها. من المرجح أن تتجه سياسة ترامب في ولايته الثانية نحو الواقعية فيما يتعلق بملف تايوان، والحزم فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية الأمريكية وحلفائها في شرق آسيا.
قد يشمل التغيير أوروبا، أو بالأحرى طريقة التعامل مع الاتحاد الأوروبي الذي يواجه أزمة وجودية منذ خروج بريطانيا، بالإضافة إلى التوترات الخفية بين فرنسا وألمانيا. تحتاج أوروبا إلى دعم أمريكي، ليس فقط عسكريًا، بل أيضًا سياسيًا، أكثر من أي وقت مضى.
الميزة الإيجابية التي ترتبط بترامب هي نفوره من الحرب، أو على الأقل عدم ميله إلى خوض الحروب. هذا في حد ذاته مؤشر أمل في سياق متوتر يخشى أن يتحول إلى مواجهة واسعة النطاق.