تهديد بوتين لأوروبا- أوكرانيا كاختبار حاسم لوحدة الاتحاد الأوروبي

المؤلف: جورج سوروس08.13.2025
تهديد بوتين لأوروبا- أوكرانيا كاختبار حاسم لوحدة الاتحاد الأوروبي

في عام 2014 المشؤوم، عندما باشر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزوه لأوكرانيا، أطلق بذلك تحديًا عظيمًا للقيم والمبادئ الراسخة التي قام عليها الاتحاد الأوروبي، وللنظام القائم على القواعد الذي صان السلام في أرجاء أوروبا منذ عام 1945. غير أن قادة أوروبا وشعوبها، ويا للأسف، لا يدركون الإدراك الكامل مدى جسامة هذا التحدي، فضلاً عن كيفية التصدي له بحكمة وروية.

إن نظام بوتين يستند بجوهره إلى الحكم بالقوة الغاشمة، وهو أمر برز جليًا في أعمال القمع الوحشية في الداخل والعدوان السافر في الخارج. ومع ذلك، فقد تمكن هذا النظام من تحقيق ميزة تكتيكية، ولو على المدى القصير، على دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللتين أبدتا تصميمًا راسخًا على تجنب أي مواجهة عسكرية مباشرة مهما كلف الأمر.

في تعد سافر على التزاماتها بموجب المعاهدات الدولية، قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وأنشأت جيوبًا انفصالية موالية لها في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا. وفي صيف العام الماضي، عندما لاحت في الأفق بوادر انتصار الحكومة الأوكرانية في حربها ضد الانفصاليين في دونباس، أصدر بوتين أوامره بشن عملية غزو واسعة النطاق بالاستعانة بقوات مسلحة روسية نظامية. ولم يكتفِ بذلك، بل بدأت الاستعدادات لموجة ثانية من التحركات العسكرية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حيث قام بوتين بتزويد الانفصاليين بدفعة جديدة من المركبات المدرعة والأفراد المدربين تدريبًا عاليًا.

ومما يثير الأسى والحزن، أن الغرب لم يزود أوكرانيا المحاصرة إلا بدعم سطحي خادع، وكان الأمر المزعج بنفس القدر هو إحجام القادة الدوليين عن التعهد بأي التزامات مالية جديدة تجاه أوكرانيا، على الرغم من الضغوط المتزايدة على احتياطياتها من النقد الأجنبي واحتمالية الانهيار المالي الشامل. ونتيجة لهذه التطورات المؤسفة، ربما أصبح مجرد التهديد بالعمل العسكري كافياً لزرع الذعر والتسبب في انهيار الاقتصاد الأوكراني الهش.

إن انهيار أوكرانيا سيشكل خسارة فادحة لحلف شمال الأطلسي، وبشكل غير مباشر للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ذلك أن روسيا المنتصرة قد تتحول إلى تهديد حقيقي لدول البلطيق، التي تضم أعدادًا كبيرة من السكان من أصول روسية."

يبدو أن بوتين يعرض على الغرب فرصة للتوصل إلى صفقة كبرى، حيث تساعد روسيا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف -على سبيل المثال- من خلال الامتناع عن توريد صواريخ إس 300 المتطورة إلى سوريا (وبالتالي الحفاظ على التفوق الجوي للولايات المتحدة في المنطقة)، وذلك في مقابل موافقة الولايات المتحدة على السماح لروسيا بالهيمنة على "جوارها القريب" المزعوم. وإذا ما أقدم الرئيس الأميركي باراك أوباما على قبول مثل هذه الصفقة المشبوهة، فإن بنية العلاقات الدولية برمتها ستتغير بشكل خطير لصالح استخدام القوة الغاشمة، وسيكون هذا خطأً مأساويًا ستكون له عواقب جيوسياسية بعيدة المدى لا يمكن التنبؤ بها.

إن انهيار أوكرانيا سيشكل خسارة فادحة لحلف شمال الأطلسي، وبشكل غير مباشر للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ذلك أن روسيا المنتصرة قد تتحول إلى تهديد حقيقي لدول البلطيق، التي تضم أعدادًا كبيرة من السكان من أصول روسية. وبدلاً من دعم أوكرانيا ومساندتها، سيضطر حلف شمال الأطلسي للدفاع عن نفسه على أرضه، وهو ما من شأنه أن يعرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لخطر كانا حريصين كل الحرص على تجنبه: المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا.

إن الخطر الذي يهدد تماسك الاتحاد الأوروبي سياسيًا أعظم حتى من التهديد العسكري. فقد تسببت أزمة اليورو الطاحنة في تحويل الاتحاد -الذي يهدف إلى تعزيز التقارب بين دول متساوية ذات سيادة، ومستعدة عن طيب خاطر للتضحية بجزء من استقلالها من أجل الصالح العام- إلى مجرد جمعية من البلدان الدائنة والمدينة، حيث تكافح البلدان المدينة جاهدة في محاولة لتلبية الشروط القاسية التي تفرضها البلدان الدائنة.

وهذا الاتحاد الأوروبي الجديد لم يعد متساوياً ولا طوعياً، بل إنه بات في نظر العديد من الشباب في البلدان المدينة أشبه بكيان أجنبي قمعي ظالم. والواقع أن نحو 30% من أعضاء البرلمان الأوروبي المنتخبين حديثاً استندوا إلى برامج انتخابية مناهضة لأوروبا بشكل صريح.

وهذا الضعف الداخلي المتزايد هو الذي سمح لروسيا بقيادة بوتين -التي هي في حد ذاتها لا تتمتع بأي قدر من الجاذبية- بالظهور كمنافس قوي للاتحاد الأوروبي. وقد ذهب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إلى حد الاستشهاد بالرئيس بوتين بوصفه قدوة له، وهو ليس بالتقارب الشاذ في حقيقة الأمر.

ويبدو أن قادة أوروبا ومواطنيها لا يدركون أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يشكل اعتداءً غير مباشر على الاتحاد الأوروبي ومبادئه الراسخة في الحكم. ولا بد أن يكون من الواضح تمامًا أنه من غير اللائق لدولة ما، أو مجموعة من الدول في حالة حرب، أن تلاحق التقشف المالي المفرط كما يفعل الاتحاد الأوروبي حتى الآن. بل ينبغي لها أن تضع كل الموارد المتاحة تحت تصرف المجهود الحربي، حتى وإن ترتب على ذلك ارتفاع العجز في الميزانية.

والحق أن أوروبا محظوظة لأن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد تصرفت بوصفها مواطنة أوروبية حقيقية في التعامل مع التهديد الخطير الذي تفرضه روسيا. وباعتبارها في مقدمة المدافعين عن فرض العقوبات على روسيا، كانت ميركل أكثر استعدادا لتحدي الرأي العام الألماني ومصالح الشركات الألمانية بشأن هذه القضية أكثر من أي قضية أخرى. ولكن ألمانيا أيضاً كانت المدافع الرئيسي عن التقشف المالي، وينبغي لميركل أن تنتبه إلى التناقض الصارخ بين الموقفين.

إن دعم أوكرانيا الجديدة في عام 2015 وما بعده هو الاستثمار الأكثر جدوى وفعالية الذي يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يقوم به الآن. بل إن هذا الاستثمار قد يساعد الاتحاد في استعادة روح الوحدة والرخاء المشترك التي أدت إلى إنشائه."

إن العقوبات المفروضة على روسيا ضرورية ولا غنى عنها، ولكنها ليست بلا تبعات وخيمة. ذلك أن الاقتصادات الأوروبية، بما في ذلك اقتصاد ألمانيا القوي، تعاني بشكل ملحوظ لأن التأثير المثبط الذي تخلفه العقوبات يؤدي إلى تفاقم قوى الركود والانكماش التي أصبحت وطأتها ملموسة بالفعل. وعلى النقيض من هذا، فإن مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي السافر من شأنه أن يخلف تأثيراً تحفيزياً إيجابياً على كل من أوكرانيا وأوروبا.

إن بلدان الاتحاد الأوروبي في حالة حرب فعلية، ويتعين عليها أن تبدأ التصرف وفقاً لذلك. وهذا يعني تعديل التزامها الصارم بالتقشف المالي، وإدراك حقيقة مفادها أن مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها أفضل بكثير من الاستغراق في الأمل наивно بأنها لن تضطر للدفاع عن الاتحاد الأوروبي ذاته.

إن أوكرانيا تحتاج إلى ضخ أموال نقدية فورية، ولنقل بقيمة 20 مليار دولار، مع الوعد بمنحها المزيد من الأموال إذا استلزم الأمر، من أجل تفادي الانهيار المالي المدمر. وبوسع صندوق النقد الدولي أن يقدم هذه الأموال، كما فعل في وقت سابق مشكورًا، مع وعد من الاتحاد الأوروبي بتقديم مساهمة مماثلة لمساهمة صندوق النقد الدولي. وسوف تظل النفقات الفعلية تحت سيطرة صندوق النقد الدولي وخاضعة لتنفيذ إصلاحات بنيوية بعيدة المدى تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الأوكراني.

وفي أوكرانيا، هناك عامل واحد آخر يعمل في صالح الاتحاد الأوروبي، ذلك أن القيادة الجديدة للبلاد عازمة على تصحيح الفساد المستشري وسوء الإدارة المتفشية والانتهاكات الصارخة التي ارتكبتها الحكومات السابقة. والواقع أنها أنشأت بالفعل إستراتيجية مفصلة لخفض استهلاك المنازل للغاز بأكثر من النصف، بهدف تشتيت الاحتكار الفاسد للغاز من قِبَل شركة نافتوغاز وإنهاء اعتماد أوكرانيا الكامل على روسيا في مجال الطاقة.

إن "أوكرانيا الجديدة" مؤيدة لأوروبا بقوة وإخلاص، وعلى استعداد للدفاع عن أوروبا من خلال الدفاع عن نفسها ببسالة وشجاعة. ولكن أعداءها اللدودين -ليس روسيا بوتين فحسب، بل وأيضاً جهازها البيروقراطي الضخم وطغمتها المالية الفاسدة- يتسمون بالشراسة الشديدة والعناد المستحكم، ولا يمكنها أن تلحق بهم الهزيمة وحدها.

إن دعم أوكرانيا الجديدة في عام 2015 وما بعده هو الاستثمار الأكثر جدوى وفعالية الذي يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يقوم به الآن. بل إن هذا الاستثمار الحكيم قد يساعد الاتحاد في استعادة روح الوحدة والرخاء المشترك التي أدت إلى إنشائه. باختصار شديد، بإنقاذ أوكرانيا من براثن روسيا، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن ينقذ نفسه أيضًا من التفكك والانهيار.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة