سياسة سد الذرائع- تقييد للمقاومة أم تكتيك تحرري فلسطيني؟

المؤلف: حسن عبيد08.10.2025
سياسة سد الذرائع- تقييد للمقاومة أم تكتيك تحرري فلسطيني؟

على مرّ عصور الكفاح التحرري ضد الاستعمار الغاشم، سعت القوى الاستبدادية المهيمنة إلى تبني إستراتيجيات متنوعة بهدف قمع المقاومة وتقليل تأثيرها. لم تقتصر هذه الإستراتيجيات على القمع الوحشي المباشر أو البطش العسكري الغاشم، بل امتدت لتشمل محاولات أكثر تعقيدًا ودهاءً تستهدف الوعي الجمعي والإرادة الصلبة للشعوب المناضلة الصامدة. وفي هذا السياق، يظهر مفهوم "سد الذرائع" كأداة سياسية خبيثة يُراد منها تقويض الفعل المقاوم الباسل؛ وذلك بحجة زائفة وهي الحفاظ على الاستقرار المزعوم أو تجنب التصعيد.

وفي قلب السياق الفلسطيني المفعم بالصمود، تكتسب هذه السياسات الظالمة بُعدًا بالغ الخصوصية نظرًا لتشابك وتعقيد العوامل السياسية والاجتماعية المتجذرة في واقع استعماري مرير وطويل الأمد. ويتجلى مفهوم "سد الذرائع" هنا كآلية ماكرة لضبط الفعل النضالي الأبي، حيث يتحوّل من كونه وسيلة لحماية المجتمع إلى ذريعة واهية لتجميد أي تحرك جسور يهدد أركان الاحتلال.

وبينما استطاعت حركات تحررية باسلة في بقاع العالم المختلفة – كتجربة جنوب أفريقيا الملهمة والجزائر الثائرة – في كسر شوكة هذه الإستراتيجيات الخبيثة عبر خطاب تحرري جريء يعيد تشكيل الوعي الجمعي، إلا أن التحدي في الحالة الفلسطينية لا يزال قائمًا وشائكًا: كيف يمكن تجاوز سياسات التقييد الممنهج للمقاومة بكافة أشكالها، وبناء إرادة شعبية صلبة تتحدى الاحتلال بفاعلية واقتدار؟

سد الذرائع في السياق الاستعماري

على الرغم من أن هذا المصطلح لم يُستخدم بصورة حرفية في العديد من دراسات ما بعد الاستعمار، فإن السلطات الاستعمارية الغاشمة لطالما مارست سياسة "سد الذرائع" الظالمة بهدف منع نشوء مقاومة أو وعي وطني متجذر، وذلك عبر مجموعة من الإجراءات التعسفية والقمعية، مثل منع التعليم الوطني أو حظر تعليم لغة السكان الأصليين، وذلك بحجة واهية مفادها أن نشر لغات السكان الأصليين يُمكن أن يُستخدم كأداة لنشر أفكار استقلالية، بالإضافة إلى الرقابة الشديدة على الصحافة والمطبوعات، بهدف وأد أي تشكيل لوعي جمعي مناهض للاستعمار، أو من خلال محاربة الرموز الثقافية أو الدينية أو التاريخية الراسخة للسكان الأصليين، لأن هذه الرموز تعبر بصدق عن الهوية الجمعية للمجتمعات المستعمَرة.

إن أدبيات ما بعد الاستعمار تنتقد بشدة وحزم هذا النوع من "المنع الوقائي" الخبيث بوصفه شكلًا من أشكال المراقبة والسيطرة الأيديولوجية الشاملة. فإدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الكبير، دعا إلى تعزيز القدرة الشخصية والجماعية في مواجهة الأفكار المجهزة مسبقًا من قبل قوى الاستعمار المتغطرسة. وكذلك ما أشار إليه فرانز فانون حول آليات الاستعمار الجهنمية، الذي يتجاوز السيطرة الجسدية ليصل إلى السيطرة الكاملة على الوعي، حيث يستبطن المستعمَر مفاهيم وديناميات الهيمنة ويعيد إنتاجها داخل مجتمعه، وحينها يتحول النضال والفعل الثوري إلى فعل يثير الخوف والارتباك بدلًا من أن يكون تعبيرًا صادقًا عن إرادة التحرر.

ويمكن أيضًا النظر إلى مفهوم "سد الذرائع" في تجارب الحركات التحررية المختلفة، كما تجلى في تجربة جنوب أفريقيا المشرفة، والجزائر الثائرة، والهند العظيمة. ففي جنوب أفريقيا، استخدم نظام الفصل العنصري البغيض ذرائع قانونية زائفة للحفاظ على النظام والقمع السياسي الممنهج ضد السود.

أما في الجزائر، فقد كانت ممارسات الاستعمار الفرنسي الغاشم تستخدم ذرائع باطلة مثل "الحفاظ على النظام"؛ لتبرير قمع جبهة التحرير الوطني. وفي الهند، استخدمت بريطانيا ذرائع مماثلة ومخادعة لتصوير المقاومة الشعبية كقوى "رجعية".

وفي كل هذه الحركات الملهمة، كان كسر "سد الذرائع" يتطلب بناء خطاب تحرري متماسك وثابت يعارض السرديات الاستعمارية الكاذبة، ويُعيد بناء الشرعية التحررية على أسس شعبية ودولية راسخة.

إعادة التأطير لسياسة "سد الذرائع" من منظور تحرّري

لا توجد لدى حركات التحرر في العالم إشكالية جذرية في فكرة "سد الذرائع" بحد ذاتها، ففي تجربة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب أفريقيا، كان هناك ميل واضح في بعض الفترات إلى تهدئة الفعل النضالي الحماسي؛ وذلك بحجة واهية وهي عدم إعطاء ذريعة للنظام العنصري لتكثيف القمع.

وكذلك في تجارب أخرى مماثلة، ولكن كان ذلك في سياق تبني إستراتيجية نضالية شاملة تقوم على دمج الفعل الدبلوماسي الحكيم مع المقاومة الشعبية العارمة والكفاح المسلح الشريف، لا أن تترك فراغًا واسعًا يستغله الاستعمار الخبيث في إعادة ترتيب أجندته.

وتكمن المعضلة الأساسية في الجمع بين مفهوم "سد الذرائع" والعمل التحرري في الاستخدام المزدوج لهذا المفهوم. فمن جهة، تُقدَّم فكرة "سد الذرائع" كإجراء وقائي حكيم يهدف إلى منع التصعيد، أو إثارة ردود فعل عنيفة من قبل قوات الاحتلال الغاشمة.

ومن جهة أخرى، يمكن أن يتحول هذا المفهوم إلى أداة تقييدية تعمل على شلّ الحركة النضالية وتقويضها، وتحويل الفعل التحرري إلى مجرد ردود فعل محكومة بشروط الاحتلال القمعية.

فعندما تُتبنى سياسة "سد الذرائع" بشكل مطلق وغير مرن، فإنها تتحول إلى قيد دائم على الفعل التحرري. ومن هنا، يأتي التحدي الأكبر في إعادة صياغة هذا المفهوم ليتحول من كونه مجرد إجراء يُعنى بتفادي ردود الفعل القمعية، إلى أداة إستراتيجية واعية تُعنى بتوقيت الفعل البطولي ومكانه وتضمن أكبر قدر من التأثير بأقل تكلفة سياسية أو اجتماعية ممكنة.

إن الاستخدام المطلق لسياسة "سد الذرائع" يحيد بالفعل الفعل النضالي، ويضعه في خانة الفعل المؤجل إلى أجل غير مسمى؛ وذلك بحجة الحفاظ على الاستقرار الزائف أو تفادي التصعيد المزعوم، لذلك، من الضروري إعادة تأطير هذا المفهوم ليصبح جزءًا لا يتجزأ من إستراتيجية نضالية شاملة ومتكاملة، فالثورات المناهضة للاستعمار انطلقت دائمًا من إرادة تحريرية جذرية، وليس من منطق التكيف السلبي مع شروط المستعمِر.

فمحاولة التفاوض أو التماهي مع منطق السلطة الاستعمارية الغاشمة يضعف الفعل النضالي التحرري الأصيل، لأن الاحتلال يتبنى دائمًا مفهوم الهيمنة والاستبداد، وما يسعى إليه المُحتلون في المقام الأول هو كسر إرادة الشعوب الحرة. ولكن التحول الأصعب والأخطر هو أن تتحول سياسة "سد الذرائع" إلى أيدولوجيا متكاملة وبرنامج سياسي شامل، يستعدي كل فعل مناضل وتحرري مهما كان نوعه، ويصبح بالتالي فلسفة قمع لا فلسفة ضبط.

سد الذرائع الفلسطينية: حواجز في وجه الثورة الشعبية

لقد تطورت سياسة "سد الذرائع" في السياق الفلسطيني لتتجاوز مجرد التهدئة وضبط الفعل المقاوم الباسل، أو ضبط الإيقاع الحساس بين السياسي والنضالي، لتصبح نهجًا وإستراتيجية شاملة ومركبة قيدت العمل النضالي في عدة اتجاهات حيوية، وأبرزها ما يلي:

  • أولًا: استخدام سياسة "سد الذرائع" كآلية قمعية لتقييد الفعل النضالي الجماهيري والشعبي العارم، وذلك تحت ذرائع زائفة مثل "الحفاظ على الأمن"، أو "تجنب التصعيد"، وفرض قيود قسرية على الحراكات الجماهيرية المباركة، فمن منظور تحليلي دقيق، يمكن القول بثقة إن سياسة "سد الذرائع" في الضفة الغربية المحتلة تُعزز مناخًا سياسيًا خانقًا ينزع عن المقاومة الفلسطينية بكافة أنواعها مشروعيتها الراسخة من جهة، بينما يُفسح المجال الفسيح أمام المستوطنين الغاصبين لمواصلة تمددهم الاستيطاني المدعوم بشكل كامل من حكومة الاحتلال الفاشية.

يشير ذلك بوضوح إلى أن الاحتلال لا يحتاج فعليًا إلى ذرائع واهية لتوسيع استيطانه الاستعماري، بل يعتبر ذلك جزءًا لا يتجزأ من إستراتيجيته بعيدة المدى لضم الأرض الفلسطينية وتهويدها الكامل.

فالاحتلال دائمًا في حالة إنتاج مستمر لذرائعه الخاصة لتبرير الإبادة الجماعية التي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني، إذ لا يمكن لسياسات ضبط الحراك الجماهيري أن توقف مشروعًا استيطانيًا متوحشًا يتغذى على منطق الإبادة والإحلال.

وبالتالي، فإن استمرار التمسك بسياسة "سد الذرائع" يعكس قراءة غير دقيقة للواقع المرير، ويضعف بشكل كبير القدرة على حشد مقاومة شعبية فاعلة قادرة على مواجهة الاستيطان المتفاقم باعتباره خطرًا وجوديًا حقيقيًا، والتجارب التاريخية أثبتت بالدليل القاطع أن الانتفاضات الشعبية العارمة كانت دائمًا عامل ضغط قوي على الاحتلال لتقييد أنشطته القمعية وليس العكس. وبدليل دامغ أنه لولا الانتفاضة الفلسطينية الأولى المباركة لما كان هناك ما يسمى بـ"سلطة وطنية فلسطينية".

  • الاتجاه الثاني: الامتناع التام عن اتخاذ إجراءات حاسمة كان من شأنها أن تُقيّد حركة الاحتلال الغاشم وتحدّ من قدرته على الإبادة والتدمير. فقد تحوّل هذا المفهوم إلى ذريعة واهية لعدم اتباع السبل الممكنة لتقييد الاحتلال ومحاسبته على جرائمه البشعة، وذلك خشية ردة فعل الاحتلال العنيفة.

فعلى مدى سنوات ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تُحسن القيادة الفلسطينية استثمار أدواتها السياسية والقانونية المتاحة، في وقت كانت فيه بأمس الحاجة الماسة إلى خلق رافعة دولية قوية تقوّي موقفها وتُقيد حركة الاحتلال.

وعلى الرغم من امتلاكها ملفات بالغة الأهمية قابلة للتدويل مثل قضية اغتيال الشهيد الرمز ياسر عرفات، أو المجازر المتكررة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي الوحشي في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، فإن السلطة الفلسطينية لم تبادر إلى تحريك هذه الملفات بجدّية على الساحة الدولية.

تلك الملفات الحساسة كان يمكن أن تشكل نقاط تحول رمزية وقانونية بالغة الأهمية تحمل الاحتلال المسؤولية الكاملة، وتؤسس لـ “ردع أخلاقي وقانوني” حقيقي يُضعف منطق الإفلات التام من العقاب.

  • الاتجاه الثالث: بالإضافة إلى الأسباب المركبة والمعقدة لموقف السلطة السلبي تجاه ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل والتقارب مع حركة حماس، إلا أن أحد هذه الأسباب هو تبني إستراتيجية "سد ذرائع" الاحتلال، وسكون السلطة إلى تخوّفات الخشية المبالغ فيها من ردة فعل الاحتلال تجاه السلطة نفسها.
  • الاتجاه الرابع: سياسة "سد الذرائع" أثرت بشكل سلبي بالغ أيضًا على بناء التحالفات الدولية المتينة. ففي كثير من الأحيان، يتم تجنب الانخراط في شراكات قوية مع حركات تحرر وطنية أو دول داعمة للمقاومة الفلسطينية المشروعة خشية "إثارة غضب" الدول الغربية المتنفذة أو التعرض لضغوط سياسية واقتصادية هائلة. هذه الإستراتيجية العقيمة أدت إلى عزلة نسبية واضحة، خاصة في المحافل الدولية حيث تُقدّم القضية الفلسطينية العادلة أحيانًا ضمن خطاب "إنساني" بحت يتجنب تسليط الضوء على البعد التحرري الجوهري، مما أضعف بشكل كبير التحالفات مع الحركات المناهضة للاستعمار في الجنوب العالمي.

وفي الختام، فإن "سد الذريعة" الحقيقي لا يكون أبدًا بتبنّي مبررات خطاب الاحتلال الفاشي في الإبادة الجماعية، أو تهميش الفعل الشعبي المقاوم، أو الصمت المخزي على الجرائم البشعة، بل ببناء مشروع سياسي تحرري وطني أصيل، وسياسات توحيدية جامعة، ومبادرات قانونية ودبلوماسية ذكية تُحرج الاحتلال وتُقيده أمام أنظار العالم أجمع.

أما حين تغيب تلك السياسات الحكيمة، فإن الفراغ الخطير الذي تتركه السلطة يتحول إلى ساحة مفتوحة يتحرك فيها الاحتلال بلا رادع أو حسيب، وتصبح السلطة – ولو ضمنيًا – طرفًا يُسهّل العدوان الغاشم لا من يضع حدًا له.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة