نهاية حزب العمال الكردستاني- تركيا نحو حقبة جديدة ؟

المؤلف: د. سعيد الحاج08.10.2025
نهاية حزب العمال الكردستاني- تركيا نحو حقبة جديدة ؟

بعد صراع دامٍ استمر لأكثر من أربعة عقود ضد تركيا، أعلن حزب العمال الكردستاني عن حل نفسه وتخليه عن السلاح، مما يمهد الطريق أمام حقبة جديدة ومختلفة في البلاد، تحمل في طياتها استحقاقات جمة وتطلعات واسعة.

تركيا بلا إرهاب

بعد سنوات طويلة من التهميش والإجحاف الذي عانى منه الأكراد في تركيا، وبعد أفكار لم تجد طريقها إلى مشاريع ملموسة مع قادة مثل الرئيس الراحل تورغوت أوزال ورئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، جاءت المبادرات العملية لمعالجة القضية الكردية في تركيا بالعدل والإنصاف مع حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، الذي اعترف للمرة الأولى في عام 2005 بما أسماه "المشكلة الكردية" في تركيا.

وعقب سلسلة من الإصلاحات السياسية والقانونية، انطلقت في عام 2009 مفاوضات سرية بين جهاز الاستخبارات التركي والحزب الذي تصنفه تركيا كمنظمة إرهابية وانفصالية، أسفرت عن نداء من الزعيم التاريخي للحزب، عبدالله أوجلان، في عام 2013، دعا فيه إلى إلقاء السلاح في إطار "عملية التسوية" مع الدولة التركية، وهو النداء الذي أعاد التأكيد عليه في عام 2015.

إلا أن هذه العملية وصلت إلى طريق مسدود مع اندلاع أحداث الثورة السورية، التي أفرزت إدارات ذاتية في شمال سوريا، الأمر الذي أسهم في عودة حزب العمال الكردستاني إلى العمليات المسلحة، وعودة تركيا إلى المكافحة داخليًا وفي كل من سوريا والعراق.

بعد أعوام عديدة، وتحديدًا في أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم، أطلق زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي ما أسماه مسار "تركيا بلا إرهاب"، حين دعا حزب العمال الكردستاني إلى حل نفسه وإلقاء السلاح، وهو ما تجاوب معه أوجلان ثم الحزب بإيجابية في سلسلة من الإجراءات والتصريحات التي بلغت ذروتها بقرار الحل.

لقد أسهمت عوامل عديدة في رفع سقف التوقعات من هذا المسار الأخير، وعلى رأسها أن الاقتراح جاء من بهتشلي بصفاته الثلاث؛ كزعيم قومي، وكمعارض تقليدي للحلول السياسية للقضية الكردية، وكحليف وثيق للرئيس أردوغان، بالإضافة إلى دعم الأخير للمبادرة ومنحها الغطاء السياسي، وتجاوب أوجلان ثم القيادات الكردية المحلية والإقليمية مع المقترح.

اختلافات

يأتي المسار السياسي الراهن في ظروف مغايرة تمامًا، بل ربما تكون معاكسة، لسنوات تأسيس حزب العمال الكردستاني وفشل المسار السابق، بما في ذلك التغيرات الأخيرة في سوريا، التي أصبحت تميل لصالح أنقرة على عكس ما كانت تطمح إليه قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، بالإضافة إلى المراجعات الفكرية لأوجلان، التي باتت ترجح كفة المشاركة السياسية والديمقراطية على العمليات العسكرية، وتراجع قدرات المنظمة بعد عمليات المكافحة داخل تركيا وخارجها في إطار الحرب الاستباقية وتجفيف منابع التمويل والتجنيد.

  • هناك اختلافات جوهرية أربعة تميز المسار الحالي عن سابقه، الذي بدأ في عام 2009، وتعثر في عام 2015. أول هذه الاختلافات يكمن في المنطلق، حيث إن المبادرة أتت من بهتشلي وليس من الرئيس أو الحكومة، كجزء من استخلاص الدروس من التجارب السابقة، التي تدعو إلى الحذر بدلًا من التسرع، بحيث لا تتحمل الحكومة مسؤولية مباشرة عن خطوات محددة من جهة، وبهدف حشد التأييد للمسار من جهة أخرى.
  • أما الاختلاف الثاني فيتعلق بالشكل، حيث لم تكن هناك شروط مسبقة أو مبادئ معلنة أو اتفاق رسمي للمسار، كما حدث سابقًا في اللقاءات المتكررة بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي "الكردي"، وورقة "النقاط العشر" التي تم توقيعها، على الرغم من أن التصريحات والإجراءات المتتالية توحي بوجود تفاهمات غير معلنة.
  • بينما يرتبط الاختلاف الثالث بتنفيذ المسار، حيث إن الخطوات العملية أتت من طرف واحد، وهو حزب العمال الكردستاني، دون أي خطوات رسمية أو معلنة حتى اللحظة من طرف الحكومة/ الدولة التركية.

وأخيرًا، يتعلق الاختلاف الرئيسي الرابع بالمضمون، حيث لم يقتصر حزب العمال على فكرة إلقاء السلاح، وإنما أعلن عن حل نفسه بشكل نهائي، ووقف أنشطته وتبني العمل السياسي.

استحقاقات

في إطار مخرجات مؤتمره الثاني عشر، الذي انعقد (في أكثر من مكان بشكل متزامن) في الفترة 5 – 7 مايو/ أيار الجاري، أعلن الحزب عن "حل بنيته التنظيمية ووقف العمل المسلح وكافة الأنشطة المنفذة باسم حزب العمال الكردستاني"، استجابة لنداء أوجلان، مؤكدًا أنه "أتم بذلك مهمته التاريخية".

ودعا البيان الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والأكاديميين ومؤسسات المجتمع المدني إلى القيام بدور فعال في تأسيس ما أسماه "السلام والمجتمع الديمقراطي"، وهي التسمية الموازية لتسمية "تركيا بلا إرهاب" التي تتبناها الحكومة، كما حثَّ "القوى الدولية" على "عدم إعاقة الحل الديمقراطي وتقديم مساهمات بنّاءة".

من جانبه، أشاد أردوغان بالقرار، مؤكدًا على أنه "خطوة مهمة على طريق تحقيق رؤية تركيا بلا إرهاب"، وأنها "ستفتح أبواب عهد جديد".

ومن الجدير بالذكر أن الرئيس التركي لم يبالغ كثيرًا في التفاؤل، حيث أكد على أن جهاز الاستخبارات وباقي المؤسسات "سيتابعون العملية عن كثب لتجنب حدوث أي مشاكل"، مشددًا على أن الخطوة يجب أن تشمل العراق وسوريا وأوروبا، في إشارة إلى امتدادات حزب العمال فيها.

يسود أنقرة هذا التفاؤل الحذر، لأنها تنظر إلى هذه الخطوة – على الرغم من أهميتها – على أنها بداية وليست نهاية، تحسبًا لأي عقبات أو مفاجآت، كما حدث في التجارب السابقة، فضلًا عن التحديات القائمة والمرتبطة باستحقاقات المرحلة الجديدة.

وهو ما يفسر غياب أي أجندة رسمية معلنة بخطوات محددة حتى الآن، على الرغم من أن وجود تفاهمات ضمنية ولو بالخطوط العريضة أمر متوقع، إذ لا يُنتظر من حزب العمال الإقدام على خطوة جذرية وتاريخية بهذا الحجم دون ضمانات أو تفاهمات أو تعهدات بالحد الأدنى من قبل الحكومة.

يمكن تصنيف استحقاقات ما بعد قرار الحل ضمن ثلاثة مسارات رئيسة:

  • المسار الأول إجرائي، ويتعلق بشكل مباشر بمتابعة التنفيذ الفعلي للقرارات المتخذة، وانعكاساتها على الهيئات التابعة للحزب خارج تركيا، وخاصة في سوريا، وهو ما ستتولاه بشكل أساسي الاستخبارات والمؤسسة العسكرية.
  • المسار الثاني دستوري – سياسي، ويشمل إجراء تعديلات دستورية أو صياغة دستور جديد ينسجم مع ملامح المرحلة المقبلة، ويتضمن ما يمكن تصنيفه ضمن الحقوق الثقافية للأكراد، وهذا هو دور البرلمان.
  • المسار الثالث قانوني مباشر، ويتعلق بكيفية التعامل مع الملفات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وخاصة مقاتليه وقادته الذين يحملون الجنسية التركية، بالإضافة إلى احتمال تعديل بعض القوانين مثل قانون الإرهاب، وهو مسار معقد ومركب، وينطوي على الكثير من التحديات، ويقع على عاتق البرلمان والأحزاب الممثلة فيه كذلك.

إلى جانب ما سبق، هناك تحديات إضافية تواجه المسار الحالي، وأهمها ثلاثة:

  • التحدي الأول يتعلق ببعض مطالب حزب العمال، والتي وردت ضمنًا في البيان الأخير، وسبق الإشارة إليها في تصريحات سابقة، مثل "قيادة أوجلان وتوجيهه لتنفيذ القرارات المتخذة والاعتراف بحقوقه السياسية"، وهو ما يعني المطالبة الضمنية بإطلاق سراحه، وهو أمر ليس باليسير، على الرغم من إشارة بهتشلي في تصريحه إلى إمكانية إتاحة الفرصة له لإلقاء خطاب تحت قبة البرلمان أمام الكتلة البرلمانية لحزب ديمقراطية ومساواة الشعوب.
  • التحدي الآخر هو احتمال الفشل أو النكوص أو التنفيذ غير الكامل وفق رؤية أنقرة، وتحديدًا ما يتعلق بقوات سوريا الديمقراطية، حيث تطالب أنقرة بحلها ودمجها في الجيش السوري، بينما تسعى هي للحفاظ على كيانها وإن انضمت للمؤسسة العسكرية. وهنا، تساور أنقرة شكوك حول احتمال أن يكون قرار حل حزب العمال الكردستاني يهدف ضمن ما يهدف إلى حماية "قسد" وليس حلها، من زاوية أن ما تأخذه عليها أنقرة هو علاقتها بحزب العمال الكردستاني "الذي لم يعد موجودًا".
  • أما التحدي الثالث فيرتبط بردة الفعل الشعبية ورأي الشارع، فالأغلبية البرلمانية المطلوبة للاستحقاقات الدستورية والقانونية المشار إليها تبدو متحققة بوجود نواب العدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية وحزب ديمقراطية ومساواة الشعوب "الكردي" وعدم ممانعة الأحزاب الأخرى وفي مقدمتها الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، بينما سيحتاج إقناع الشارع بالخطوات الجذرية المتوقعة إلى جهد كبير، خاصة في ظل الخطاب القومي ذي النبرة العالية الذي ساد في البلاد في السنوات الأخيرة.

وهنا، يُتوقع من الرئاسة والحكومة اعتماد خطاب يركز من جهة على المكاسب الكبيرة للمسار الحالي، والمتمثلة في التخلص من التكلفة الباهظة لمكافحة الإرهاب البشرية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وسد الباب على التدخلات الخارجية والضغط على تركيا، فضلًا عن المكاسب الاقتصادية المنتظرة، ومن جهة أخرى على أن الأمر لم يشمل "تنازلات للإرهاب"، وإنما هو تجاوب مرن مع "حل المنظمة الإرهابية نفسها بلا قيد أو شرط" في طريق الوصول إلى "تركيا بلا إرهاب".

وبالتأكيد ستوظف الحكومة في هذا السبيل الخطاب السياسي الرسمي ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى أصحاب الرأي والفكر في البلاد، كما حدث سابقًا وإن بشكل معدّل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة