حزب الله- أزمة رؤية، خيارات محدودة، ومستقبل ضبابي في لبنان.

يبدو أن خطاب حزب الله يعتريه قدر كبير من التشتت والضبابية، وذلك في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها الساحة الداخلية والخارجية. يواجه الحزب ضغوطًا إقليمية ودولية هائلة وغير مسبوقة، مما بدأ يقوض ويحد من خياراته المتاحة، والتي هي ضيقة بالأساس. وعلى الرغم من هذه المعطيات، يواصل قادة الحزب إطلاق رسائل متباينة ومتضاربة، الأمر الذي يعكس حالة من الارتباك وعدم وضوح الرؤية لدى قيادة الحزب.
فبينما نجد الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، يلوح بشن جولات قتال جديدة ضد إسرائيل، فإنه في الوقت ذاته يكرر شعارات التمسك بالعيش المشترك بين اللبنانيين، وتطبيق اتفاق الطائف الذي يهدف إلى تنظيم الحياة السياسية في لبنان، واحترام القرارات الدولية الصادرة عن المؤسسات الدولية. هذا التناقض الظاهر يكشف، عن غير قصد أو نية مبيتة، أن هذه الازدواجية في الخطاب لم تعد مقنعة للرأي العام، وغير قادرة على إخفاء حقيقة دامغة لا مفر منها، وهي أن الأدوات التي استعملها الحزب في الماضي قد فقدت فاعليتها وتأثيرها.
إن وظيفة السلاح التي استمرت لعقود من الزمن، تحديدًا أربعة عقود تقريبًا، قد فقدت مبررات وجودها. ففي عام 2000، نجح حزب الله في تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، محققًا نصرًا عظيمًا على إسرائيل يشهد له القاصي والداني. ولكن، عوضًا عن الانخراط في بناء الدولة اللبنانية وتحقيق المكاسب السياسية في تلك الفترة، اختار الحزب الاستمرار في حمل السلاح تحت ذرائع ومبررات متعددة، مثل احتلال إسرائيل لمزارع شبعا المتنازع عليها، والخطر الإسرائيلي الوجودي الدائم الذي يهدد لبنان.
منذ ذلك الحين، خفت بريق السلاح في الداخل اللبناني، وبدأت وظيفته بالتراجع في أوساط الرأي العام اللبناني تحت هذه المسميات والشعارات. ولكن الظروف السياسية الضاغطة التي كانت سائدة في المنطقة، ساعدت الحزب على الاستمرار في التمسك بسلاحه، خصوصًا بعد اندلاع الثورة السورية، ثم تدخله المباشر والعلني في هذه الحرب.
هذا التدخل السافر كشف الوظيفة الحقيقية للسلاح، وأثبت أنه لم يعد سلاحًا للمقاومة كما كان في السابق، وإنما تحول إلى "ذراع عسكرية" إيرانية وظيفتها الأساسية هي حماية إيران ودعم مشروعها النووي الطموح.
لاحقًا، أحدث زلزال "طوفان الأقصى" الذي انطلق من غزة تغييرًا جذريًا في موازين القوى، مما أجبر حزب الله على التدخل في الصراع تحت شعار جديد ابتكره الحزب بنفسه، وهو "وحدة الساحات". ثم بدأت وتيرة الحرب ضد إسرائيل بالتصاعد تدريجيًا حتى بلغت ذروتها في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وأدت إلى دمار واسع النطاق.
اليوم، يتمرد "حزب الله" على هذا الواقع الجديد، وهو الذي يتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، محاولاً إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في عملية "إنكار" واضحة للمتغيرات التالية:
1- الحرب الإسرائيلية: تلك الحرب قد أفقدت سلاح "حزب الله" وظيفته الأساسية، وهي وظيفة "الردع"، التي طالما تغنى بها الحزب منذ حرب عام 2006. لم يتمكن هذا السلاح من حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. بل إنه لم يستطع حماية البيئة الحاضنة للحزب من التهجير القسري، ولا حتى حماية كبار قادته الذين تم اغتيالهم في الأسبوعين الأولين من الحرب الشاملة.
بعد ذلك بأشهر قليلة، توالت الضربات الإسرائيلية ضد البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي أثبت مرة أخرى أن "الذراع الإيرانية" في لبنان قد تعطلت بالكامل وأجبرت على الانكفاء والتراجع.
اليوم، تستبيح إسرائيل سماء لبنان من جنوبه إلى شماله دون رادع، بينما يعجز حزب الله عن الرد. وهذا الأمر يثير تساؤلات كثيرة حول جدوى بقاء هذا السلاح وتبرير وجوده.
2- سقوط النظام السوري: شكل سقوط نظام بشار الأسد في دمشق، في غضون أسبوعين فقط، ضربة قاصمة لحزب الله. فسقوط نظام الأسد قد أفقد حزب الله عمقه الإستراتيجي الحيوي، وخط إمداده الرئيسي من طهران، مرورًا ببغداد ودمشق، وصولًا إلى بيروت.
يحاول الحزب اليوم إعادة إحياء هذا العمق الإستراتيجي المفقود بواسطة عمليات التهريب المختلفة، ولكن من دون جدوى تذكر. فتارةً من خلال تهريب الأسلحة عبر الحدود السورية-العراقية، وتارةً أخرى عبر الحدود السورية مع لبنان.
هذا الواقع المرير لا يبدو أنه قابل للتغيير في المدى المنظور، كما أن الرهان على تبدل المشهد السياسي في سوريا بات أشبه بحلم يراود مخيلة قادة الحزب ومن خلفهم طهران، خصوصًا مع انطلاق عجلة استعادة الدولة السورية لعافيتها التدريجية.
3- التبدل في المشهد السياسي الداخلي: إن انتخاب قائد الجيش اللبناني، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، ثم تسمية القاضي الدولي، نواف سلام، رئيسًا لحكومة لبنان، قد قلبا التوازنات السياسية في البلاد.
فبعد أن استطاع حزب الله فرض ثلاثة مرشحين رئاسيين على لبنان، وهم: إميل لحود، وميشال سليمان، وميشال عون، فقد هذه الميزة والنفوذ في الوقت الحالي. ونتيجة للحرب المدمرة وخسارة الحلفاء في الداخل، ذهب الحزب إلى انتخاب قائد الجيش، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، وذلك بعد فراغ رئاسي دام لأكثر من سنتين.
لقد شكلت الرئاسة اللبنانية على مدى 20 سنة "صمام أمان" أو "درع حماية" لسلاح الحزب، من خلال جذب الرؤساء الثلاثة نحو تبني سردية المقاومة التي فقدت بريقها وجاذبيتها في الوقت الراهن.
هذه المعطيات والمدخلات تضع قيادة حزب الله أمام ثلاثة خيارات صعبة، قد يصعب عليها تجاوزها أو تخطيها. فالحزب بات ملزمًا باختيار أحد هذه الخيارات. والمفارقة العجيبة أن هذه الخيارات الثلاثة تقود كلها إلى النتيجة ذاتها. ويمكن اختزال هذه الخيارات بالتالي:
1- التسليم الطوعي: يستطيع حزب الله أن يتحلى بالتعقل والحكمة، والانتقال إلى العمل السياسي الطوعي، بعيدًا عن العمل العسكري. ويمكنه الاستفادة من "مقايضة" السلاح بمكتسبات أتت على ذكرها ورقة الموفد الأميركي، توم براك، ووافقت عليها الحكومة اللبنانية في جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 5 أغسطس/آب الحالي (حيث خرج وزراء حزب الله وحركة أمل الخمسة من الجلسة للتعبير عن رفضهم لهذا المقترح).
هذه المكتسبات تبدأ بتمويل عملية إعادة الإعمار الشاملة، وتعويض المتضررين في جنوب لبنان، وتنتهي بتسليح الجيش اللبناني بأحدث الأسلحة والمعدات، مع الإغداق على لبنان بالمساعدات المالية العربية والغربية.
يستطيع الحزب التخلي عن السلاح مقابل الاستثمار السياسي في قاعدته الجماهيرية العريضة. فالحزب يمتلك جذورًا عميقة في المجتمع المحلي، وامتدادات إقليمية واسعة قد يصعب تخطيها أو تجاهلها. وهذا سوف يكون الخيار الأسلم والأكثر منطقية.
2- شراء الوقت: يستطيع الحزب الإصرار على الاحتفاظ بسلاحه، ورفض أي محاولة لنزعه بالقوة على يد الأجهزة الأمنية اللبنانية، مستخدمًا "العصا الطائفية" الغليظة، من خلال تأليب الطائفة الشيعية ضد الدولة اللبنانية ومؤسساتها الرسمية، خصوصًا مع علمه المسبق بصعوبة إقحام الجيش اللبناني في مواجهة عسكرية مباشرة ضده، وذلك نتيجة للحسابات الطائفية الدقيقة التي تهدد تماسك المؤسسة العسكرية الرسمية (حيث يشكل قرابة 30% من عديد الجيش اللبناني من الطائفة الشيعية، وتحذيرات قيادته من نتائج زجه في سيناريو مدمر كهذا).
هذا السيناريو يفترض الحفاظ على الوضع القائم الحالي (status quo)، بهدف كسب المزيد من الوقت. أي احتفاظ الحزب بما تبقى لديه من سلاح، مقابل استمرار الاستباحة الإسرائيلية للسيادة اللبنانية في الجنوب والضاحية الجنوبية لمدينة بيروت والبقاع (وهي مناطق سيطرة حزب الله)، مع تلقي الضربات الموجعة لأجل غير مسمى وغير مضمون النتائج.
3- مواجهة عسكرية جديدة: ثمة معلومات متواترة تشير إلى أن حزب الله يرفض الإقرار بالهزيمة، ويعيد صياغة عقيدته القتالية تمهيدًا لـ "رد الاعتبار" واستعادة الهيبة.
لقد اكتشف الحزب أنه بالغ في الاعتماد على قدراته الصاروخية المتطورة، على حساب قوته الحقيقية في الالتحام المباشر والقتال الميداني. ولهذا، ثمة روايات تتناقلها أوساط مقربة من قيادة الحزب في بيروت، تفيد بأن حزب الله يتحين الفرصة السانحة لإعادة اعتباره العسكري على الأرض.
ولكن حتى هذا السيناريو لا يُعد مضمون النتائج، إذ أظهر التفوق الإسرائيلي الكبير في مجال التكنولوجيا العسكرية المتطورة، صعوبة تحرك عناصر حزب الله، ليس فقط على الحدود، وإنما في العمق اللبناني أيضًا. هذه الفرضية قد تودي بحزب الله، بل بكل لبنان، إلى الانتحار الجماعي.
وبالتالي، فإن هذا السيناريو قد يكون كارثيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في حال كانت قيادة الحزب مقتنعة بجدواه. كما أن أي جولة عسكرية جديدة ضد إسرائيل، قد لا تكون موجهة ضد "حزب الله" وحده، وإنما ضد الدولة اللبنانية برمتها، وضد منشآتها الحيوية ومؤسساتها الرسمية، وذلك باعتبار أن السلطة الحالية قد حصلت على فرصة للتفاوض الجدي من أجل حل معضلة السلاح، ولكنها فشلت في تحقيق أي تقدم ملموس.
اليوم، يتهم حزب الله كل من يطالبه بتسليم سلاحه، ولو طوعًا وعبر الحوار البناء، بالعمالة والارتهان إلى الخارج. مع العلم أن مطلب اللجوء إلى كنف الدولة والتقيد بدستورها كان على الدوام مطلبًا محليًا بامتياز، يسبق الضغوط الدولية والغربية. بيد أن الحزب يرى في تلك المطالبات "نافذة" لشد عصب الشارع الموالي له، والاحتماء خلفه تحت مبررات "الخطر الوجودي" المزعوم.