عودة الحكومة للخرطوم- إشارة نصر وبداية مرحلة التعافي في السودان.

المؤلف: ركابي حسن يعقوب08.30.2025
عودة الحكومة للخرطوم- إشارة نصر وبداية مرحلة التعافي في السودان.

بعد مرور أربعة وعشرين شهراً عصيبة أجبرت خلالها الحكومة السودانية على النزوح قسراً من العاصمة الخرطوم جراء أتون الحرب المستعرة، نحو مدينة بورتسودان الساحلية المتربعة على شاطئ البحر الأحمر، استأنفت الحكومة أعمالها من هناك. وفي خطوة بالغة الأهمية، عقدت الحكومة السودانية اجتماعاً تاريخياً داخل العاصمة الخرطوم يوم الثلاثاء الموافق للسادس والعشرين من شهر أغسطس/آب.

ويُعد هذا الاجتماع بمثابة باكورة أعمال حكومة مدنية ذات صلاحيات كاملة، وذلك منذ استقالة رئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك في شهر يناير/كانون الثاني من العام 2022. الجدير بالذكر أن حمدوك قد عقد لاحقاً تحالفاً مشبوهاً مع قائد مليشيا الدعم السريع، بهدف الإطاحة بالحكومة الشرعية بقوة السلاح والعودة إلى السلطة من جديد.

المحاولة الآثمة التي انطلقت شرارتها في الخامس عشر من شهر أبريل/نيسان 2023، وأضرمت نار الحرب التي لا تزال مستعرة حتى يومنا هذا، حيث باءت محاولات الحلف الشيطاني بالفشل الذريع في تحقيق مبتغاه بالاستيلاء على مقاليد الحكم.

إن انعقاد اجتماع الثلاثاء، يمثل منعطفاً بالغ الدلالة، ومؤشراً بالغ الأهمية، فضلاً عن كونه يحمل في طياته جملة من الدلالات والرسائل المباشرة، التي تستهدف بعضها الداخل السوداني، فيما تتوجه أغلبيتها الساحقة نحو الخارج.

المغزى

يكمن المغزى الأساسي في البُعد الجيوستراتيجي الذي تتمتع به العاصمة الخرطوم، فهي تحتل موقع القلب النابض للسودان، عند نقطة التقاء النيلين العظيمين: النيل الأبيض والنيل الأزرق. هذا الموقع الفريد يمثل نقطة وصل حيوية لشبكة طرق معبدة تمتد عبر أراضٍ منبسطة، وتربطها بسائر أنحاء البلاد، شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، ووسطاً.

بفضل هذه الجغرافيا المتميزة، تعتبر الخرطوم نقطة ارتكاز ذات أهمية قصوى للسيطرة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على كافة أرجاء البلاد. فمن يمتلك السيطرة على الخرطوم، يسهل عليه بسط نفوذه على السودان بأكمله.

وقد أدرك المستعمر البريطاني هذه الميزة الجغرافية الفذة، فاختار الخرطوم لتكون عاصمة للسودان بناءً عليها. هذه الحقيقة هي التي دفعت مليشيا الدعم السريع إلى تكثيف جهودها للسيطرة على العاصمة، وهو ما تجلى في حشد قواتها الضاربة وعتادها العسكري المتطور داخلها.

وإلى جانب أهميتها الجغرافية، تمثل الخرطوم مركز ثقل سكاني، حيث تحتضن ما يقارب الثمانية ملايين نسمة، يمثلون نسيجاً متجانساً من كافة أنحاء السودان. كما أنها تمثل مركزاً اقتصادياً وتجارياً وثقافياً وعلمياً نابضاً بالحياة، وتتميز بجودة الخدمات الصحية والتعليمية، وغيرها من الخدمات الأساسية الأخرى.

وتعتبر الخرطوم الوِجهة الرئيسية لمنتجات الولايات من السلع الزراعية والحيوانية، سواء المخصصة للاستهلاك المباشر أو للتصنيع. كما تحتضن أكبر المطارات الدولية في البلاد.

هذه الأهمية المتعددة الأبعاد للعاصمة الخرطوم هي التي دفعت حكومة (الأمل) برئاسة كامل إدريس إلى التعجيل بعقد أول اجتماع لها، بعد ثلاثة أشهر فقط من تحريرها من قبضة مليشيا الدعم السريع، التي أمعنت فيها تدميراً شاملاً وممنهجاً طال كل شيء.

وتنطوي هذه الخطوة الجريئة من جانب الحكومة السودانية على مغزى بالغ الأهمية، مفاده أنها قد أحكمت قبضتها على أهم المفاصل التي تتيح لها فرض السيطرة الكاملة على البلاد بأسرها، وممارسة صلاحياتها السيادية كاملة غير منقوصة. كما أنها تبعث برسالة واضحة مفادها أنه لا سبيل لمليشيا الدعم السريع لتهديد العاصمة، فضلاً عن استعادتها التي باتت ضرباً من الخيال. وأن الطريق نحو فك الحصار عن الفاشر وطرد المليشيا من مدن نيالا والجنينة، وبقية مناطق دارفور أصبح وشيكاً للغاية.

ويبدو أن هذه الحقيقة الراسخة هي التي دفعت قيادة الدعم السريع إلى الإعلان عن تشكيل ما أسمته بالحكومة الموازية، وذلك بعد شهرين فقط من فقدانها السيطرة على العاصمة الخرطوم. وهي سلطة افتراضية لا وجود لها على أرض الواقع، ولم تحظ بأي اعتراف، لا على الصعيد الإقليمي ولا على المستوى الدولي. حتى القوى الإقليمية الداعمة للمليشيا لم ترغب في إعلان اعترافها بها، وهو ما يمثل إحدى المفارقات الجلية في التعاطي الإقليمي مع الحرب الدائرة في السودان!

الدلالات والرسائل

تتضمن هذه الدلالات والرسائل أبعاداً سياسية في المقام الأول، ورمزية في المقام الثاني. كما أنها تنطوي على بعدين أساسيين: بعد داخلي وآخر خارجي. ويتمثل البُعد الرمزي في استعادة رمز سيادة الدولة، المتمثل في القصر الجمهوري، والقيادة العامة للجيش، والمؤسسات الحكومية الوطنية وسلطاتها الثلاث، ورئاسات الأجهزة الأمنية والشرطية والعدلية.

أما الدلالات والرسائل الموجهة للداخل، فتتمحور حول التأكيد على انتصار الجيش والقوات المساندة له على مليشيا الدعم السريع المتمردة، واقتراب نهاية الحرب، ونهاية حالة الطوارئ، وبداية تطبيع الحياة العامة وعودة الأمن والاستقرار إلى العاصمة الحبيبة.

ومن ثم تحفيز وتشجيع المواطنين الذين هجروا ديارهم، سواء كانوا نازحين داخل البلاد أو لاجئين خارجها، بسبب المعارك الطاحنة وانتهاكات الدعم السريع، على العودة إلى بيوتهم واستئناف حياتهم الطبيعية من جديد، والمشاركة الفعالة في عمليات إعادة الإعمار وتجاوز تداعيات وآثار الحرب المدمرة، باعتبارها عبئاً ومسؤولية وطنية ينبغي القيام بها على وجه السرعة.

وتشير الإحصائيات الصادرة عن برامج العودة الطوعية التي تنظمها الحكومة، وتشارك فيها منظمات تطوعية محلية، إلى أن ما يقارب المليوني نازح ولاجئ قد عادوا بالفعل إلى العاصمة الخرطوم والولايات التي كانت تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع، وهو ما يعكس استجابة جيدة من قبل المواطنين وشعورهم بالاطمئنان، ورغبتهم الصادقة في المشاركة في إعادة بناء الوطن.

وفيما يتعلق بالرسائل التي أرادت حكومة الأمل إرسالها إلى الخارج من خلال عقد هذا الاجتماع الهام، فهي عديدة ومتنوعة، لكن أهمها على الإطلاق هي طمأنة المجتمع الدولي بأن الأوضاع قد عادت إلى طبيعتها في العاصمة، وأنه يمكن للبعثات الدبلوماسية والمنظمات الأجنبية العودة إلى مقراتها واستئناف أعمالها بسلام وأمان، وأن السودان قد خطا خطوات واثقة على الطريق الصحيح نحو التعافي من آثار الحرب الغاشمة.

كذلك تمثل هذه الخطوة رسالة واضحة المعنى مفادها أن تأييد فكرة الحكومة الموازية التي شكلتها مليشيا الدعم السريع لن يجدي نفعاً على الإطلاق، ولا أثر له على أرض الواقع. وهي أيضاً رسالة قوية إلى الأمم المتحدة تسبق مخاطبة رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين في شهر سبتمبر/أيلول المقبل، بأنه هو الممثل الشرعي والوحيد للسودان.

وبالتالي التأكيد القاطع على قدرة الحكومة وكفاءتها للقيام بمهامها المنوطة بها في اليوم التالي للحرب، وتأكيد مشروعية أعمالها ورؤيتها الثاقبة في كيفية إنهاء الحرب، واستعدادها التام لتحمل مسؤولياتها الجسام في إعادة الإعمار وقيادة الدولة السودانية في المرحلة الانتقالية، وإخراجها من أتون الفوضى التي أحدثها تمرد الدعم السريع المارق إلى بر الأمان، ووضع أساس متين لبناء نظام سياسي مدني ديمقراطي يتم تداول السلطة فيه سلمياً، ويزدهر في كنفه نظام اقتصادي قوي يستغل الموارد الطبيعية الهائلة للدولة السودانية، التي ما تزال مصنفة عالمياً بأنها سلة غذاء العالم.

وهذا هو جوهر ما جاء في برنامج رئيس الوزراء كامل إدريس، الذي أفصح عنه بوضوح عقب أدائه القسَم الدستوري في نهاية شهر مايو/أيار الماضي.

ومن خلال الانخراط الجاد والفعال للحكومة في عمليات تهيئة البيئة وإعادة تأهيل ما أفسدته مليشيا الدعم السريع، يتضح جلياً أنها تعتبر ذلك من قبيل التحدي المصيري الذي يجب التغلب عليه لاستكمال النصر العسكري في مختلف محاور القتال، ومن ثم التفرغ التام لتحديات وأعباء وأثقال الحكم المقبلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة