غزة- تسييس المساعدات الإنسانية تحت الاحتلال - قراءة في مبادرة (GHF)

في مشهد يبعث على الأسى، اندفع آلاف الفلسطينيين الذين أنهكهم الجوع في السادس والعشرين من مايو/ أيار 2025، نحو مركز لتوزيع المعونات الإنسانية في رفح، مما أدى إلى فوضى عارمة استدعت تدخل القوات الإسرائيلية بإطلاق النار في الهواء.
لم يكن هذا مجرد إخفاق في التنظيم، بل تجسيدًا مأساويًا لمعاناة شعبٍ حاصرته الظروف القاسية حتى النخاع، وترك يصارع من أجل الحصول على القليل من الطعام تحت تهديد السلاح. وفي مبادرة سابقة، انهار مشروع "الميناء العائم"، الذي قدمته إسرائيل والولايات المتحدة كحل مبتكر لإيصال المساعدات، قبل أن يبدأ عمليًا، وسط انتقادات لوجستية وأمنية لاذعة، مما أثار المزيد من الشكوك حول مصداقية هذه المساعي.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsماذا يحتاج قطاع غزة لتجاوز كارثة التجويع؟
5 احتياجات أساسية للسكان بحالات الحرب فهل توفرت لأهل غزة؟
في خضم هذه المأساة الإنسانية، ظهرت مبادرة إسرائيلية-أمريكية جديدة تحت مسمى "المساعدات الإنسانية"، تثير تساؤلات جوهرية حول إمكانية وصف خطة تدار بمنطق الاحتلال وتوزع تحت إشراف عسكري بأنها إنسانية. وأين النزاهة والحياد عندما يتم تهميش الوكالات الأممية لصالح كيانات أمنية مستحدثة؟
يسعى هذا التحليل إلى تفكيك هذه الخطط من منظور قانوني وإنساني لتقييم مدى التزامها بالمبادئ الدولية للعمل الإغاثي أو انحرافها عنها.
أولًا: الوضع القانوني لغزة ومسؤوليات الاحتلال
بالرغم من انسحاب إسرائيل من داخل قطاع غزة في عام 2005، إلا أنها لا تزال تعتبر قانونيًا قوة احتلال نظرًا لاستمرار سيطرتها على الحدود والمعابر، وفقًا لقرارات محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة.
وهذا الوضع يلقي على عاتقها مسؤولية ضمان توفير الاحتياجات الأساسية للسكان، بما في ذلك إدخال المساعدات بصورة تلقائية وسلسة. وعلى الرغم من عملية (7 أكتوبر/ تشرين الأول)، لا يبرر القانون الدولي السلوك الإسرائيلي الذي يتسم بالعقاب الجماعي بحق المدنيين، إذ يحظر فرض العقوبات الجماعية ويوجب استمرار حماية السكان.
وبالتالي، فإن أي خطة للمساعدات لا تنبع من هذا الالتزام، بل تستخدم للتحايل عليه، تعتبر انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني.
خرق المبادئ الإنسانية في خطط الإغاثة
تستند عمليات الإغاثة الدولية إلى أربعة مبادئ إنسانية أساسية توجه عمل المنظمات، وهي:
- (الإنسانية): وتعني تخفيف المعاناة والعمل على حماية الأرواح وصون الصحة.
- (الحياد): ويتطلب عدم الانحياز إلى أي طرف في النزاعات.
- (الاستقلال): ويعني التحرر من أي اعتبارات سياسية أو عسكرية.
- و(عدم التمييز أو الحيادية): وهو إيصال المساعدات إلى جميع المحتاجين دون تمييز. تهدف هذه المبادئ إلى ضمان تقديم المساعدات للأغراض الإنسانية المحضة، وعدم استغلالها لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية.
إلا أن الخطط الإسرائيلية-الأمريكية في غزة، وعلى رأسها مبادرة "مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)"، تثير شكوكًا عميقة حول مدى احترام هذه المبادئ. تأسست (GHF) في ولاية ديلاوير بالولايات المتحدة في فبراير/ شباط 2025، بدعم من إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية، بهدف توزيع الغذاء في غزة بطريقة "آمنة وشفافة".
ولكن منذ انطلاقها، واجهت المؤسسة انتقادات لاذعة من منظمات إنسانية تتهمها بتسييس توزيع المساعدات. فالخطة التشغيلية المعلنة لـ (GHF) انحرفت عن المعايير المعتادة، حيث اعتمدت على إنشاء أربعة مراكز توزيع كبيرة، تقع غالبيتها في جنوب القطاع، وتحظى بحراسة مشددة من الجيش الإسرائيلي وشركات أمنية أمريكية خاصة، مع انتشار جنود إسرائيليين في محيطها لـ "ضمان الحماية".
وقد تباهى المسؤولون عن الخطة بأنها النموذج الوحيد الذي حصل على موافقة إسرائيل لتوزيع الإغاثة، مما يعني أن العملية برمتها خاضعة لإرادة القوة المحتلة.
وهذا يمثل تعارضًا صارخًا مع مبدأ الاستقلالية. فبدلًا من أن تكون المساعدات تحت قيادة جهات أممية أو محايدة، أصبحت مشروطة بتنسيق أمني إسرائيلي يشرف على كل صغيرة وكبيرة.
كما أن مبدأ الحياد تعرض للانتهاك من خلال اشتراط "تدقيق أمني" للمستفيدين؛ حيث أعلن مسؤولو (GHF) أنهم سيخضعون السكان لفحص بشأن أي صلة محتملة بحماس عبر تقنيات مثل التعرف على الوجوه والبيومترية. هذا الشرط يعني تمييزًا سياسيًا في إغاثة المدنيين، وهو انتهاك لمبدأي الحياد وعدم التمييز.
أما مبدأ الإنسانية نفسه فهو محل شك، إذ قلصت الخطة نطاق المساعدات بصورة كبيرة لا تفي بالاحتياجات الهائلة. فقد اقترحت (GHF) توزيع وجبات معلبة ومواد نظافة وأدوية مرة أو مرتين شهريًا فقط عبر مراكزها، مع تحديد تكلفة الوجبة بنحو 1.3 دولار فقط (بما يشمل الشراء والتوزيع)، مما يوضح محدودية المحتوى الإغاثي.
انتقدت الأمم المتحدة وجمعيات دولية هذا البرنامج ووصفته بأنه غير شفاف وغير كافٍ، مؤكدة أنه لن يلبي الاحتياجات واسعة النطاق في غزة.
وتساءل مسؤولون أمميون عما إذا كانت هذه "المساعدات" مجرد ستار لتغطية أهداف عسكرية وسياسية. وقد صرح توماس فليتشر، كبير مسؤولي الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، بأن خطة (GHF) ليست إلا "واجهة زائفة لمزيد من العنف والتهجير"، محذرًا من أنها تجعل إيصال الغذاء مشروطًا بالأهداف السياسية والأمنية الإسرائيلية، بحيث يتحول "التجويع إلى ورقة مساومة"، ووصفها مسؤول أممي آخر صراحة بأنها "تسليح للمساعدات".
وقد تجسدت هذه الانتقادات على أرض الواقع عندما استقال المدير التنفيذي لـ (GHF)، جيك وود، في 25 مايو/ أيار 2025، معلنًا أنه وجد استحالة في تحقيق أهداف المؤسسة مع "الالتزام الصارم بالمبادئ الإنسانية من إنسانية وحياد وعدم انحياز واستقلال".
وأكد وود أنه لن يشارك في أي خطة تنطوي على تهجير قسري للفلسطينيين، داعيًا إسرائيل إلى فتح المعابر أمام إدخال كميات أكبر من المساعدات دون عوائق أو تمييز.
وعلى الرغم من ذلك، أعلنت (GHF) المضي قدمًا بدونه، وادعت أنها ستبدأ في إطعام مليون فلسطيني خلال أسبوع. لكن أولى عمليات التوزيع كشفت عن هشاشة الخطة؛ فمع افتتاح مركز في رفح في 26 مايو/ أيار 2025، تدافع آلاف الجوعى بشكل خرج عن السيطرة، واضطر الموظفون إلى الانسحاب بعد إطلاق الجيش الإسرائيلي أعيرة نارية تحذيرية لتفريق الحشود اليائسة.
هذه المشاهد الفوضوية أكدت مخاوف المراقبين من أن الخطة تفتقر إلى مقومات الحياد والسلامة، وتعرض المدنيين للخطر، في ظل التهميش المتعمد للوكالات الدولية التقليدية، كالأونروا واللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي تتمتع بخبرة واسعة في التعامل المباشر مع السكان.
ومن اللافت أن إسرائيل استبعدت فعليًا الأونروا والمؤسسات الأممية من آلية الإغاثة الجديدة، بحجة انهيار قنواتها، وهو ما اعتبره الفلسطينيون محاولة لاستبدال المؤسسات الشرعية بكيانات تخضع لسيطرة إسرائيلية.
وقبل ظهور مؤسسة (GHF)، طُرحت مبادرة إنشاء "ميناء بحري عائم" قبالة شواطئ غزة بإشراف الجيش الأمريكي كممر لدخول المساعدات. رُوّج لهذه الخطة باعتبارها حلاً مبتكرًا لتجاوز العقبات اللوجيستية، ولكنها افتقرت منذ البداية إلى أساس قانوني وإنساني واضح.
فالميناء لم يكن مستقلاً، بل خاضعًا للتفتيش والسيطرة الإسرائيلية، ومحدود القدرة، دون إشراك فعال للوكالات الأممية. وسرعان ما انهار فعليًا في أبريل/ نيسان 2025، عندما جرفت العواصف منشآته الأولية، بالتزامن مع فضائح تتعلق بتضارب الصلاحيات وغياب التنسيق.
وقد وصفته منظمات دولية بأنه "ميناء دعائي" أكثر من كونه مسارًا إغاثيًا حقيقيًا. هذا الفشل الميداني يكمل إخفاق تجربة (GHF)، ويعكس هشاشة أي مشروع إغاثي يُبنى على اعتبارات أمنية بدلاً من الأسس الإنسانية والقانونية.
تكشف تحليلات إضافية أن الخطط الإسرائيلية-الأمريكية المقترحة لغزة، وعلى رأسها مبادرة (GHF)، لا تعاني فقط من اختلالات في المبادئ الإنسانية، بل تنطوي على أهداف أعمق تتجاوز الإغاثة الظاهرية.
إذ يرى مراقبون أن هذه الخطط تسعى إلى "إعادة تغليف الحصار وتقنين التجويع"، في صورة مشروع إنساني، حيث يُستخدم الغذاء كأداة إخضاع لدفع السكان نحو النزوح القسري عبر إنهاكهم الجسدي والنفسي.
كما أن عسكرة التوزيع لا تقتصر على الحماية العسكرية، بل تشمل أبعادًا استخباراتية، من خلال إشراك شركة أمنية أمريكية (Safe Reach Solutions) أسسها ضابط سابق في (CIA)، تتولى جمع وتحليل بيانات المستفيدين، وربما استخدام تقنيات بيومترية، مما يجعل الفلسطيني يخشى أن يتحول إلى هدف أمني لمجرد طلبه المساعدة.
وفي السياق ذاته، حذرت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية (PNGO) في بيان بتاريخ 22 ديسمبر/ كانون الأول 2024 من أن إسرائيل تسعى إلى السيطرة الكاملة على توزيع المساعدات، وإسكات الأصوات التي توثق الانتهاكات، معتبرة أن هذه السياسات تتزامن مع تصاعد الجرائم إلى حد الإبادة، كما وثقته تقارير لمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.
ويُعد استبعاد الأمم المتحدة ووكالاتها من آلية الإغاثة الجديدة خطوة خطيرة، إذ تفقد العملية الإنسانية شفافيتها، وتحرم السكان من آليات الشكوى الدولية.
وقد رحبت منظمات حقوقية دولية، مثل (AIDA)، بمواقف دول كأيرلندا وإسبانيا والنرويج التي شددت على ضرورة دعم الأونروا وعدم تجاوزها.
ومن اللافت أن النسخة السويسرية من (GHF) أُغلقت قبل أن توزع أي طعام، تحت وطأة تحقيقات جنائية، مما اضطر القائمين عليها إلى نقل العمليات إلى كيان أمريكي يحمل الاسم نفسه.
وقد كشفت تحقيقات صحفية في New York Times وWashington Post أن هذه الخطة وُلدت من داخل الحكومة الإسرائيلية، التي حاولت إخفاء دورها عبر واجهات خيرية أجنبية، فيما وصف زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد كلًا من (GHF) وشركة (SRS) الأمنية بأنهما "شركات وهمية" هدفها التغطية على تورط الحكومة.
ثالثًا: تجويع غزة بين الجريمة المتعمدة والخطط المعلبة
مع بدء الهجوم الإسرائيلي الواسع على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تقتصر الانتهاكات على القصف والتدمير العسكري، بل اتخذت شكلًا مركبًا من سياسات التجويع والتهجير القسري، والتدمير الشامل للبنى التحتية والمدنيين، مما دفع منظمات دولية مرموقة، كمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى اعتبار ما يجري جريمة إبادة جماعية محتملة.
وقد استندت هذه التوصيفات إلى حجم الخسائر البشرية الهائل، ونمط الحرمان الممنهج من أساسيات الحياة، والنية الواضحة للإبادة في الخطاب الرسمي لبعض القادة الإسرائيليين.
وفي الوقت ذاته، فُرض حصار شامل على القطاع، طال الغذاء والماء والكهرباء والدواء، واعتُبر استخدام "التجويع كسلاح حرب" جريمة إضافية تؤسس للمساءلة الجنائية الدولية، لا سيما بعد أن طلب مدعي المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع، لضلوعهما في استخدام الحصار والتجويع كوسيلة للعقاب الجماعي.
في هذا السياق، ومع اتهام أطراف بارتكاب أفعال ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي، يثور سؤال جوهري: كيف يمكن لمن يرتكب مثل هذه الجرائم أن يقترح خططًا إنسانية؟ وكيف يمكن للجلاد أن يتقمص دور المنقذ؟ إن ما يُعرض على أنه "مساعدات" ليس إلا تجميلاً خادعًا لسياسة الخنق، بل ومحاولة لإضفاء الشرعية على الجريمة من خلال إنشاء مؤسسات ذات طابع أمني-سياسي، كمؤسسة (GHF)، التي تهمش الوكالات الإنسانية المحايدة وتقيد التوزيع بشروط أمنية تمس جوهر الحياد والاستقلالية.
آفاق المستقبل: نحو صون العمل الإنساني من التلاعب والتسييس
تمثل تجربة (GHF) عبرة بليغة لما قد يحدث عندما تُستغل المبادئ الإنسانية وتُوظف الإغاثة كأداة في يد قوة الاحتلال. لكن هذا الفشل يفتح نوافذ مستقبلية يمكن الاستفادة منها، وأبرزها:
- إعادة الاعتبار للمبادئ الإنسانية الأربعة:
أثبتت الأحداث أن أي خطة إغاثية لا تقوم على أسس الحياد والاستقلالية والإنسانية وعدم التمييز، محكوم عليها بالفشل. سيدفع ذلك المجتمع الدولي إلى إعادة النظر في سياساته المتعلقة بإشراك الدول المحتلة في إدارة المساعدات، لتجنب تكرار مأساة غزة. - تعزيز دور الوكالات الأممية والجهات المحايدة:
إن الإخفاق الذريع لمحاولة تهميش الأونروا والصليب الأحمر سيعيد التأكيد على ضرورة التمسك بالجهات الفاعلة التقليدية ذات الخبرة والمصداقية المجتمعية. سيعزز ذلك مكانة العمل الإنساني كمجال مستقل، وليس كأداة سياسية لأي طرف. - ترسيخ الحماية القانونية للعمل الإنساني:
ستكون هناك حاجة ملحة لوضع ضوابط قانونية تمنع عسكرة المساعدات. ستطالب منظمات الإغاثة الدولية بوثائق مرجعية جديدة، تلزم الدول باحترام المعايير، وقد يُدفع نحو إصدار بروتوكول إضافي ملزم ضمن اتفاقيات جنيف. - تفعيل آليات المساءلة القضائية:
ما جرى في غزة قد يخلق سوابق قانونية تدين استخدام التجويع كسلاح، وتمهد لإدراج تسييس المساعدات ضمن أشكال الجرائم ضد الإنسانية. وستُستخدم تجربة (GHF) كدليل في المحاكم الدولية لإثبات سوء النية وانتهاك المبادئ. - تحول غزة من قضية محلية إلى اختبار أخلاقي عالمي:
لم تعد غزة مجرد قضية فلسطينية داخلية أو صراع إقليمي معزول، بل أصبحت مرآة تعكس مدى التزام العالم بقيم العمل الإنساني. إنها ليست مجرد مسرح للمأساة، بل لحظة فاصلة لاختبار الضمير العالمي: هل لا يزال التضامن الإنساني قادرًا على تجاوز الحدود الجغرافية والانحيازات السياسية؟ لقد كشفت الفضيحة المرتبطة بتسييس المساعدات أن الإنسانية ذاتها أصبحت سلعة للمساومة. ومن هنا، فإن غزة ليست مجرد محطة عابرة، بل نقطة تحول يمكن أن تعيد تعريف مفاهيم الحياد والاستجابة الطارئة، وتدفع نحو بناء منظومة إغاثية عادلة لا تُستخدم كسلاح ولا تفرض شروطًا مجحفة، بل تصون الكرامة وتحافظ على إمكانية الحياة في مواجهة الحصار والإبادة.