هندسة التجويع في غزة- سلاح إسرائيلي لإخضاع وإبادة شعب.

المؤلف: د. عصام يوسف08.21.2025
هندسة التجويع في غزة- سلاح إسرائيلي لإخضاع وإبادة شعب.

في الآونة الأخيرة، أصبح مصطلح "هندسة التجويع" شائعاً في مختلف وسائل الإعلام. لكن ما الذي يعنيه هذا المصطلح تحديداً؟ وهل من الممكن حقاً "هندسة" عملية تجويع شعب بأكمله بصورة ممنهجة؟!

بكل بساطة، "الهندسة" تشير إلى التخطيط الدقيق والإدارة المحكمة. هذا تحديداً ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة. فما نشاهده من حصار قاس وشامل، وإغلاق متواصل للمعابر، ومنع قاطع لدخول المساعدات الإغاثية والغذائية، أو السماح بدخولها بشكل محدود وفق شروط قاسية ومرهقة، ليس مجرد قرارات اعتباطية وعشوائية، بل هو عبارة عن سياسات ممنهجة ومدروسة بعناية فائقة، تهدف إلى تحقيق أهداف واضحة ومحددة بدقة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

ماذا يحتاج قطاع غزة لتجاوز كارثة التجويع؟

list 2 of 2

5 احتياجات أساسية للسكان بحالات الحرب فهل توفرت لأهل غزة؟

end of list

معركة الصورة

يتعمد الاحتلال الإسرائيلي فرض حصار مشدد ومنع دخول أي شكل من أشكال الغذاء، حتى الضروري منها، مثل رغيف الخبز أو حبة القمح. وقد صرح قادة إسرائيل بذلك علانية، دون أي وازع أو خوف من المساءلة، مستندين بذلك إلى حصانة دولية تمنحهم الضوء الأخضر المطلق للقتل والتجويع والإبادة.

عندما تبدأ المواد الغذائية بالتناقص تدريجياً، يبدأ الجوع في التغلغل في أجساد الأطفال والنساء وكبار السن. أجسادهم الضعيفة والواهنة لا تستطيع الصمود طويلاً، وتموت في صمت مطبق. ومع تصاعد الضغوط الدولية الخجولة والمترددة، يُسمح بدخول كميات ضئيلة ومحدودة من المساعدات، لا تكفي لسد جوع المحتاجين، لكنها كافية لتبرير وجود "إغاثة إنسانية" زائفة أمام الكاميرات ووسائل الإعلام.

حملة دعائية

ومع كل شاحنة مساعدات تدخل، تنطلق حملة دعائية ضخمة ومبالغ فيها، تهدف إلى تضخيم أهمية وصول هذه المساعدات، وكأن المجاعة قد انتهت فجأة! تتسابق وسائل الإعلام الأجنبية، الممنوعة أصلاً من دخول غزة، لنقل الرواية الإسرائيلية المزيفة، في حين يتم منع الصحفيين الفلسطينيين من تغطية الأحداث أو تجاهل تقاريرهم المصورة والمكتوبة، حتى وهم يعانون من الجوع الشديد أمام الكاميرات، ومعهم صور مؤلمة لآلاف الأطفال المرضى والمجوعين، الذين ينتظرون الموت بصمت، حتى لا يزعجوا العالم بآهاتهم وأنينهم.

الاحتلال الغاشم لا يسمح بدخول المواد الغذائية التي تسد حاجة السكان، بل يبقيهم دائماً على "حافة المجاعة"، دون أن يتجاوزوا الخط الأحمر الذي قد يحرك القانون الدولي.

مرحلة جديدة

لكن المأساة الإنسانية لا تنتهي هنا.

بمجرد دخول الشاحنات المحملة بالمساعدات، تبدأ مرحلة جديدة ومروعة من هندسة التجويع:

لا يتم توفير أي نوع من الحماية للمواد الغذائية، لا من الشرطة ولا من المؤسسات المحلية ولا حتى من العشائر. الشاحنات تُجبر على السير في مسارات محددة مسبقاً وتحت تهديد السلاح، مروراً بين الدبابات الإسرائيلية. وفي نقاط معينة، قريبة جداً من مواقع الاحتلال، يُمنع السائق من التقدم إلى الأمام، ويُترك كل شيء هناك دون حراسة.

ثم تبدأ "المعركة"

عصابات مسلحة، تم تشكيلها برعاية الاحتلال خلال الحرب، تهاجم القوافل الإغاثية، وتسطو على المساعدات، وتمنع المدنيين الأبرياء من الاقتراب. ومن يحاول الاقتراب، يُقتل بدم بارد أو يُسلب ما يملك. كل شيء يُنهب ويسرق أمام أعين الجائعين الذين لا حول لهم ولا قوة، بينما تعجز المؤسسات الدولية والإنسانية عن الوصول إلى المخازن أو القيام بعملية التوزيع الآمن للمساعدات.

تُباع المواد الغذائية المسروقة في الأسواق بأسعار خيالية، مما يزيد من قهر الناس وإذلالهم. أصبح سعر كيلو الطحين الواحد أغلى بكثير مما كان يباع به كيس كامل قبل الحرب. لم تعد المجاعة هنا مجرد غياب للغذاء، بل تحولت إلى إذلال وابتزاز ممنهج ومقصود.

في المقابل، يسمح الاحتلال بدخول شاحنات خاصة تابعة لتجار من غزة، بعد "تنسيق" مباشر مقابل مبالغ مالية طائلة. هذه الشاحنات لا تتعرض للهجوم، لأنها مؤمنة من قبل مسلحين يعملون بعلم ورضا جيش الاحتلال، الذي يريد إرسال رسائل سياسية خبيثة أكثر مما يسعى إلى حل الأزمة الإنسانية.

ما يُسمح بإدخاله في هذه الحالة ليس الدواء الضروري أو الخبز الأساسي، بل كميات صغيرة من الفواكه والمسليات التافهة وغيرها، ثم تُلتقط لها صور دعائية تُنشر عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية ووكالات الأنباء الأجنبية لتكذيب الحديث عن المجاعة المستمرة: "انظروا! هل من مجاعة وهناك فراولة في غزة؟"

إنها ليست تجارة.. إنها سياسة

يُستخدم التجويع كسلاح فعال لكسر إرادة الناس من الداخل، وتفكيك النسيج الاجتماعي، ودفعهم نحو الانهيار الكامل، بهدف الضغط سياسياً وإنسانياً لتقديم التنازلات، على حساب الأرض والكرامة والحق الأساسي في الحياة.

هندسة التجويع ليست مجرد مصادفة عابرة، بل هي جريمة منظمة تُدار بعقل بارد، وتُنفذ بأدوات الحرب والبيروقراطية والدعاية المضللة. إنها سلاح صامت، ولكنه فتاك ومدمر، يُستخدم لإخضاع غزة وإبادة ما تبقى من مقاومتها الإنسانية الشرسة.

هذه السياسات القمعية، بحسب القانون الدولي، تصنف كجرائم حرب وجريمة إبادة جماعية، لأنها تستهدف المدنيين الأبرياء بحرمانهم من الغذاء، وهو حق إنساني أساسي لا يجوز المساس به أو التلاعب به تحت أي ظرف من الظروف.

المطلوب حاليا

الدور المطلوب حالياً وبشكل فوري من أصحاب الضمائر الحية هو استمرار العمل الجاد على إرسال المواد الغذائية والإنسانية لإنقاذ حياة الناس الأبرياء في غزة بطرق أخلاقية متميزة تحفظ كرامة المواطنين، واستمرار الضغط الشعبي المحلي والعربي والإسلامي والدولي لإنهاء الحصار الظالم والتجويع الممنهج الذي يمارسه جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.

يجب أيضاً أن يكون الإعلام العربي والإسلامي والدولي قوياً وحازماً في طرح وتأدية رسالته المهنية والأخلاقية بكل أمانة وصدق، وتفنيد محاولات التضليل الإعلامي الممنهج الذي يمارسه الاحتلال وإدارته السياسية.

داخلياً وفي غزة، من المهم رغم كل الصعاب والتحديات، أن تتواصل مساعي التوعية الداخلية بالمحافظة على السلامة والأمن العام والمساعدة في تأمين سلامة وصول المساعدات إلى مراكز توزيع آمنة تضمن نوعاً من العدالة في التوزيع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة